سمعَ التابعيُّ الجليلُ عبدُالله بن المُبارك رجلاً سكرانَ يُنشِدُ شعراً ويقول:أذلَّني الهوى فأنا الذليلُوليسَ إلى الذي أهوى سبيلُ فأخرجَ ورقةً وقلماً، وكتبَ البيتين!فقِيلَ له: أتكتبُ بيت شعرٍ سمعته من سكران؟فقال: رُبَّ جوهرةٍ في مزبلةٍ!الحكمةُ ضالةُ المؤمن، يأخذها من أيِّ وعاءٍ خرجتْ، ومن أيِّ إناءٍ نضحَ بها، ولو كانَ الناطقُ بها عدواً، تماماً كما يُتركُ الباطلُ ولو قاله أحب الناسِ إلينا!نحن لا نعيش وحدنا على ظهرِ هذا الكوكب، هذه البشريةُ نهاية المطافِ أُسرة واحدة مهما حاولنا أن نُنكِرَ هذا، نقرأُ هُنا وهُناك، ونتعاملُ مع هذا وذاك، والعاقلُ كالنحلِ يقعُ على كُلِّ زهرٍ أينما نبتَ!في أقوالِ أُدباء الغربِ أشياء كثيرة جميلة، وعند شعراء الجاهلية حِكم رائعة، وقد كانَ عُمر بن الخطاب مُعجباً بشعرِ زُهير بن أبي سُلمى، ولم يقُلْ إنه رجل من أهلِ الجاهلية، وإنما كانَ يتذوقُ حكمته ويتركُ شِركه، لأنَّ أخذ قول عذب من مُخالفٍ في الدِّينِ والمُعتَقَدِ لا يعني أخذ دينه ومعتقده! والاعترافُ بمزايا الآخرين من خُلُقِ الأنبياء، ألم ترَ أنَّ موسى عليه السلام قال: «وأخي هارون هو أفصح مني لساناً»!وهَضْمُ الآخرين مُميزاتهم من خُلُقِ إبليس، ألم ترَ أنه قال: «أنا خير منه»!وقد بلغتْ عدالةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم حداً جعلته يُقِرُّ بالحقِ الذي قاله يوماً شيطان!فحينَ وضعَ أبا هُريرة على الصدقات، قبضَ على رجلٍ يسرقُ من الطعام، فأرادَ أن يرفعه إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فتعلَّلَ الرجلُ بالفقرِ وكثرةِ العِيال، فأشفقَ عليه أبو هُريرة وتركه!وتكررَ المشهدُ في اليومِ الثاني بحذافيره!وفي كلِّ مرةٍ يسألُ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أبا هريرة: ما فعلَ أسيركَ البارحة؟فيُخبره أنه وعده أن لا يعود، فيقولُ لهُ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: أمَا إنَّه كذبكَ وسيعود!وفي اليومِ الثالثِ حين قبضَ عليه، قالَ له: لأرفعنَّكَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذا آخر ثلاث مرات تزعمُ أنكَ لا تعود ثم تعود!فقالَ الرجل: دعني أُعلمك كلماتٍ ينفعكَ الله بها. فقالَ أبو هريرة: ما هي؟فقالَ له: إذا أَوَيْتَ إلى فراشكَ فاقرأ آيةَ الكُرسي، فإنكَ لا يزال عليكَ من الله حافظ ولا يقربنَّك شيطان حتى تُصبح!ولمَّا أخبرَ أبو هُريرة النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالأمر، قالَ له: أمَا إنَّه صدقكَ وهو كذوب، تعلمُ من تُخاطبُ منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة؟فقال: لافقالَ له: ذاكَ شيطان!