+ A
A -

كثيرة هي توقعاتنا تجاه الحياة والناس المحيطين بنا، حتى أن بعضنا يرسمون في أذهانهم التواقة إلى الحب والجمال والسلام صوراً وردية جميلة لعالم بديع لا وجود له سوى في مخيلتهم الخصبة، بينما يتراءى لهم على أرض الواقع الفعلي نقيض ما يحلمون به، فيصدمون كأنما الدنيا يُفترض أن تكون جنة واسعة فيها كل ما يتمنون وما يشتهون.

ربما نفعل ذلك لأننا في قرارة أنفسنا نريد الأشياء كما نهوى، أو لأننا نرفض الحقيقة كما هي، وغير قادرين في أحيان كثيرة على تقبل الواقع وبشاعته، فنخترع عالماً منفصلاً نحيا في ربوعه وننسى لبعض الوقت أننا بتنا منفصلين عن العالم الحقيقي الذي نحن فيه بالفعل.

بَيْدَ أن الواقع شيء والخيال شيء آخر تماماً، فالحياة لا ينبغي أن تكون مسرحاً لتصوراتنا الأفلاطونية ولا مهرباً مما هو موجود حقّاً، يقول كولن ولسن: «الخيال ينبغي ألا يُستخدم للهرب من الواقع، وإنما لصنعه».

وتماماً كما نغوص في الأحلام وننفصل عما هو حاضر أمامنا، ندخل في علاقات اجتماعية نرفع خلالها سقف توقعاتنا من الآخرين، فنعطي ثقة في غير محلها، ونعتقد أن الطرف الآخر سيبقى حاضراً دوماً من أجلنا، إلى أن يحدث موقف ما يكشف الستار على الوجه الحقيقي المتواري خلفه، فنُدهش كأن صاعقة نزلت على رؤوسنا لتحطم كل ما رسمناه من صور جميلة حول الشخص المقابل.

لهذا فإن ما تتوقعه من الآخر يمكن أن يكون محض تصور لا يمت للحقيقة بصلة، فالإنسان الذي لم يحدث بينك وبينه موقف يمكن أن تُختبر خلاله العلاقة القائمة لن تستطيع أبداً أن تضمن جانبه وأن تعطيه كل ثقتك، لأنك إن رفعت من توقعاتك تجاهه فقد تستيقظ يوماً من حلم زائف لتشهد واقعاً يحطم كل تصوراتك لسنين طويلة.

لذا خفف توقعاتك من الشخص الذي تجمعك به علاقة صداقة أو حب، إلى أن تقع في أزمة أو يحصل موقف مفصلي ويثبت خلاله أن ذاك الإنسان يستحق أن تتخذه صديقاً أو حبيباً أبد الدهر، وإلا ستُصدم في حياتك كثيراً، كما يفعل الكثيرون ممن يضعون ثقتهم في غير محلها، ويسلمون مفاتيح قلوبهم إلى من لا يستحقونها.

لا تبحث عن علاقة عابرة لا تدوم، أو علاقة مبنية على المصالح، بل ابحث عن علاقة متينة قائمة على الاحترام المتبادل والعطاء المشترك، عن شخص يقدرك ويهتم لأمرك، وعلى استعداد ليفديك بعمره لو تطلّب الأمر، عن صديق يدافع عنك عندما يحاربك جميع من حولك، عن شريك حياة يدعمك ولا يغادرك حتى في أحلك الأوقات، عن قلب دافئ وعقل نير وروح متوثبة. ولا يكون ذلك إلا بامتحان الغير ووضعهم تحت الاختبار، ليتبين المحبُّ الحقيقي من المدعي الزائف، الصديق المخلص من الصاحب الاستغلالي.

وعلى العموم، خفف توقعاتك من جميع من حولك، حتى تبقي نفسك بمنأى عن الصدمات. دعهم يفاجئونك بمحبتهم وتضحياتهم، خير من أن تبالغ في تقدير مشاعرهم نحوك وإخلاصهم لك في حين أنهم قد يكونون نقيض ذلك تماماً.

كن حكيماً لا يعطي أحداً ثقته الكاملة وأركان قلبه إلا بعد أن يختبره ويمتحنه، لا لأنك تشك في الآخرين بل لأن فؤادك ليس سوى بيتاً يدخله الجديرون بالمحبة لا كل من هب ودب، وليس لأنك تخشى الغدر لكن لأنك كقائد جيش محنّك لا يدع نفسه لقمة سائغة، بل يخطط بذكاء للمعركة، ويحافظ على جيشه في منطقة آمنة بعيداً عن أعين الأعداء والمتربصين، وكل من يحاول استغلال الثغرات للوصول إليه والإطاحة به.

copy short url   نسخ
29/04/2024
25