+ A
A -
لا يجوز تسييس الحج.. هذه الجملة تلخص قصة ممتدة لهذه الشعيرة المقدسة منذ فجر الإسلام.. الشعائر المقدسة لها احترامها ويجب فصلها عن كل الخلافات السياسية.
عندما تقوم الدولة أو السلطة المنوط بها الإشراف على الحج بوضع العراقيل والمعوقات أمام وصول الحجاج وأداء شعائرهم بسهولة واطمئنان، فتلك مسألة بالغة الخطورة.
لقد دخل التربح مع السياسة فعكر على الحجاج صفو أداء شعيرتهم وحملهم من الأعباء المالية ما لا يطيقون بعد أن ارتفعت تكلفة الحج لأسعار خيالية يضعها المستثمرون ورجال الأعمال في جيوبهم.
في أزمة حصار دول الرباعي لقطر، لوحت السعودية لأول مرة بتسييس الحج عندما رفضت الدول الإفريقية الانصياع لضغوطها وقطع العلاقات مع قطر. هكذا تقول صحيفة «لوموند» الفرنسية، فلجأت إلى التهديد بتعقيد حصول حجاجها على التأشيرات، مما اضطر عدداً من الجمهوريات الفقيرة إلى الاستجابة لها، فيما رفض الجزء الأكبر الخضوع للابتزاز عبر ورقة الحج، بحسب تحقيق موسع نشرته «لوموند» في 12 يونيو الماضي.
في السنوات الأخيرة استخدمت السعودية ورقة الحج عدة مرات.
ولا يعني وجود المشاعر المقدسة داخل المملكة السعودية أنها تملك حق المنع والمنح لدخول الحجاج، ففي إطار القانون الدولي لا يجوز منع أحد من أداء شعائره إلا في حدود ما يؤثر على الأمن العام وسلامة الحجاج وما لا يتناقض مع الإجراءات القانونية الطبيعية للدولة الراعية.
المنع لا ينحصر فقط في التأشيرات وإنما تعقيد السفر وزيادة تكلفته مما يرهق ميزانية الحاج، فللحاج أن يختار الطريق المناسب لسفره برا أو بحرا أو جوا حسب إمكانياته المادية والصحية، وهذا يدخل ضمن «الاستطاعة» التي تنص عليها هذه الفريضة «من استطاع إليه سبيلا».
وكذلك عملية الإنفاق على رحلة حجه، فلا يجوز إخضاع عملة بلاده المعترف بها دوليا للمنع وعدم التداول، خاصة إذا كانت تلك العملة كالريال القطري الذي يدخل ضمن العملات الصعبة الدولية التي يقاس بها الاحتياطي النقدي العام للدول.
ففي الحالتين السابقتين، تم فرض محاذير على طرق دخول الحجاج القطريين وعلى استخدام عملة بلادهم، مما يدخل الحج في عملية تسييس صريحة وواضحة.
يقول موقع بي بي سي: إن الجدل الأخير بشأن تسييس مناسك الحج، إحياء لجدل قديم تفجر في أكثر من مناسبة وخلال أكثر من موسم، مع العديد من الدول الإسلامية كالعراق وسوريا وليبيا وغيرها، وكانت وزارة الأوقاف السورية قد أكدت في بيان لها مؤخرا، أن السلطات السعودية تستمر في حرمان المواطنين السوريين من أداء فريضة الحج لهذا العام أيضاً، بسبب قيامها بتسييس الفريضة على حد قولها.
ويقول الدكتور حسن هاني زادة الكاتب الصحفي الإيراني في حديث لنقطة حوار الذي يبثه القسم العربي من تليفزيون بي بي سي (هيئة الإذاعة البريطانية) إن السعودية تستخدم مناسك الحج، كورقة ضغط على بعض الدول التي لا تتواءم معها سياسيا، وهي في ذلك تقوم بتسييس مناسك روحية ودينية ومعنوية.
ويعرب زادة عن تضامنه مع موقف قطر ويرى أن السعودية هي التي سيست الموقف لأن قطر لا تنتهج سياسة موالية لها واستخدمت الحج لتصفية حساباتها مع الدوحة.
عوائد الحج بالمليارات
مداخيل الحج تزيد عاما بعد آخر نظرا للعدد المتنامي من الحجاج الذين وصلوا في آخر إحصائية إلى 3 ملايين حاج يضاف إليهم 6 ملايين معتمر.
وتسعى السلطات السعودية إلى زيادة أعداد الحجاج والمعتمرين إلى 30 مليوناً، وستصل مداخيل ذلك إلى أكثر من 50 مليار ريال سنوياً (13.3 مليار دولار).
إيرادات الحج لعام 2014 قدرت بنحو 31.73 مليار ريال (8.4 مليار دولار)، أي بنسبة زيادة 3 % عن عام 2013، وفقاً لدراسة صادرة عن الغرفة التجارية الصناعية في مكة المكرمة.
وعام 2012، قدرت إيرادات الحج والعمرة بأكثر من 62 مليار ريال (16.5 مليار دولار)، بزيادة نسبتها 10 %، مقارنة بالعام 2011، والتي بلغت حينها 57 مليار ريال (15.2 مليار دولار). وتستحوذ تلك الإيرادات على 3 % من الناتج المحلي للسعودية.
ويلقي موقع المرصد العربي للحقوق والحريات الضوء على عائدات الحج في ضوء المثار حاليا على مواقع التواصل الاجتماعي بشأن ذهابها أو بعضها لصفقات التسليح وتمويل الحروب في الدول الإسلامية، فيقول إن هناك تغييبا للشفافية بشأن اقتصادات الحج والعمرة، لكى يصعب رصد أهم الآثار الاقتصادية للحج على المستوى المالي والاقتصادي، وذلك عبر الإخفاء المتعمد للإحصاءات أو البيانات الرسمية الدقيقة للنشاط المالي والاقتصادي للحجاج، وتدفق العملة الأجنبية في موسم الحج، وانعكاسات ذلك على مستوى الإنفاق والنقل والإسكان العقاري والتجارة ومواد الغذاء وغيرها من المجالات التي تعزز عوائد المملكة والشركات السعودية الخدمية.
الجانب الخفي
الجهود البحثية الحديثة التي رصدتها دراسة المرصد العربي توفر مادة خام جيدة لإلقاء الضوء على الجانب الخفي من عوائد وأرباح اقتصادات الحج والعمرة على النظام السعودي والشركات ورجال الأعمال، ودور مشاريع التوسعة للحرمين والمشاريع الاستثمارية في محيطها لتعظيم هذا الجانب الربحي من فريضة الحج.
برغم الكلفة الهائلة للمشاريع الاستثمارية في توسعة الحرمين النبوي والمكي وتعظيم خدماته الفندقية والسياحية والتجارية على الاقتصاد السعودي، إلا أن الدراسات الاقتصادية السعودية قدرت أن الأرباح الاقتصادية سوف ستتضاعف ثلاث مرات عن الإنفاق وسوف تصب في النهاية كأرباح خيالية 3.3 ضعف الإنفاق للاقتصاد الحكومي والشركات السعودية التي يملكها رجال الأعمال أو الأشخاص النافذون المتعاقدون مع الحكومة في تنفيذ هذه المشاريع.
هذه الجوانب الاقتصادية حولت النظرة الدينية إلى الحج كشعيرة مقدسة ينبغي وضع كل التسهيلات للحجاج لأدائها بما لا يؤثر عليهم ماديا أو صحيا، إلى نظرة سياحية بحتة تعاملت معه على أنه زيارات سياحية تجني منها الدولة أرباحا بالعملات الصعبة.
التعامل بمنظور سياحي ربحي
وحسب دراسة المرصد العربي فإن تعزيز العوائد والأرباح للشركات السعودية والحكومة رفعت من تكاليف الحج بصورة كبيرة للتعامل معها من منظور سياحي ربحي بحت، بالإضافة إلى مسح الهوية المعمارية والأثرية والتاريخية للحرم المكي الشريف أمام المشاريع الفندقية والخدمية للشركات للتربح بأكبر قدر ممكن من الحجاج، بحجة تقديم خدمة 5 نجوم للحجيج باعتبارها سياحة لا فريضة إسلامية خامسة.
وأشارت دراسات وتقارير اقتصادية متخصصة في اقتصادات الحج والعمرة، إلى ارتفاع معدلات حجم العوائد والأرباح المجنية للحكومة السعودية والشركات من مواسم الحج والعمرة بعد اكتمال منظومة المشروعات التوسعية الاستثمارية في الحرمين إلى أكثر من 47 مليار ريال بحلول العام 2020م.
هذه الأموال الضخمة من العوائد تكفي للدلالة على عدم صحة ما تثيره السلطات السعودية في الرد على منتقديها الذين يطالبونها بعدم تسييس الحج والعمرة، بأنها تستثمر في المشاعر أموالا هائلة تنفقها من ميزانيتها. هذا غير صحيح فحجم العوائد أكثر من حجم الإنفاق، ففي حالة مكة المكرمة مثلا لا يزيد الإنفاق على ثلث حجم اقتصادها الكلي القائم على المداخيل التي ينفقها الحجاج والمعتمرون.
في هذا السياق توقع كبير خبراء اقتصادات الحج والعمرة وأستاذ قسم الاقتصاد بكلية العلوم الاقتصادية والمالية الإسلامية بجامعة أم القرى الدكتور عابد العبدلي أن تقفز عوائد الحج إلى 22.6 مليار ريال بعد انتهاء أعمال التوسعة، أي زيادة بنسبة 69.2 % ثم بعدها يتوقع أن تستمر في الزيادة بمعدل ثابت.
وبالنسبة لعوائد العمرة، فإن ارتفاعها تصاعدي بمعدل متزايد، ويتوقع أن تبدأ في الارتفاع بعد مشاريع التوسعة بمعدل ثابت حتى تصل أقصاها بنحو 25.8 مليار بحلول عام 2020م..
المشاعر المقدسة حق لكل المسلمين، وهي بمثابة وقف ينفق على كل مسلم وعلى سلامة أوطانهم. كما أنه لا يجوز المساس بقدسيتها دون أخذ فتوى من المجامع الفقهية الإسلامية وليس فقط بناء على ما تفتي به هيئة كبار العلماء السعودية.
مشاريع استثمارية على بقاع أثرية إسلامية
أكثر ما يؤخذ على السعودية في هذا الإطار أنها أقامت مشاريع استثمارية ربحية على بقاع مقدسة، نموذج لذلك أبراج البيت مشروع وقف الملك عبدالعزيز هو مشروع استثماري ربحي ضخم يحتوي على 7 أبراج فندقية سكنية استثمارية ضخمة مقابلة لبيت الله الحرام، يضم كل برج منها فندقاً وشققاً فاخرة مفروشة، وأجنحة من جميع المستويات، إضافة إلى مجمع تجاري، وأسواق مركزية، ومنطقة مطاعم، كما تتربع على قمة المجمع أعلى وأكبر ساعة في العالم «ساعة مكة المكرمة».
تلك الأبراج التي تحوي 7 فنادق سياحية أهمها فيرمونت، وموفنبيك، ومكة، والمسماة بأبراج الساعة أنشئت على أنقاض قلعة أثرية تعرف بقلعة «أجياد» وتنسب للشريف سرور بن مساعد، وبدأ العمل على المشروع بإزالة القلعة التاريخية ومن ثم إزالة الجبل الذي تعتليه القلعة.
وواجه هذا المشروع الضخم انتقادات عالمية واسعة بسبب هدم القيمة الروحانية والتاريخية للبيت الحرام وهدم آثارها التاريخية لصالح تعظيم الأرباح والعوائد من تلك الأبراج الفندقية والسياحية.
المفترض أن للحج أهمية ودورا في حل مشاكل المسلمين الاقتصادية كما يقول المستشار الاقتصادي زيد الرماني لشبكة «سي إن إن». كما نقلت الصحيفة عن نادية باعشن، الخبيرة الاقتصادية وعميدة كلية إدارة الأعمال شمال جدة، إنه «لو استغل المورد الاقتصادي هذا (الحج) أفضل استغلال ووجد تنظيما أكثر مما هو عليه الآن فإن الدخل الاقتصادي للحج والعمرة سيوازي دخل البترول».
كل الأرقام السابقة تضع الحكومة السعودية أمام مسؤولية إسلامية ضخمة تجاه المشاعر وتجاه الحجاج والمعتمرين، لكن الرد في الأغلب يكون بأنها بذلت جهودا هائلة في التوسعة والتطوير وأنها تملك بذلك الحق في الانفراد بخطط وقرارات دخول الحجاج أو منعهم لأسباب سياسية.
copy short url   نسخ
06/08/2017
3844