+ A
A -
ليس شهران من الحصار هما ما مرا على وطننا، منذ إن قررت الدول الخليجية الثلاث: السعودية، الإمارات، البحرين ومعها مصر، إغلاق الأجواء والحدود مع قطر، بل هما شهران من الانتصار، والثقة بالنفس، وتأكيد السيادة التامة.
وبشهادات عالمية، فإن الحصار الجائر، الذي أراد من قرروه أن يكون محنة، حوله القطريون، وكل من يعيشون على أرض قطر الطيبة إلى منحة.


فمنذ الأيام الأولى للحصار، توقعت دول الحصار أنه سيكون وسيلة ضغط لترضخ قطر لقائمة المطالب، وراهنت على أزمة غذائية تخلو فيها الرفوف من المنتجات، والآن بعد انقضاء شهرين، يؤكد المعنيون أن هذا التصور بعيد المنال وأن هناك خُططاً مدروسة تحول دون وقوعه.
ونتج عن هذا الحصار نقض لمواثيق واتفاقيات دولية، وهو ما دفع وزارة الاقتصاد والتجارة القطرية لتقديم شكوى إلى منظمة التجارة العالمية ضد دول الحصار، لكن في المقابل يشير مسؤولون إلى أن الأزمة أتت بما لم تتوقعه تلك الدول، ويشير المختصون إلى أن التحرك السريع لتأمين المنتجات الغذائية بالتوازي مع الخطط الطويلة الأمد، أعطى لقطر خطاً دفاعياً يبقيها في منأى عن أي تبعات قد تؤدي لأزمة غذائية.
وقد وضعت مبادرات كثيرة نصب أعينها إيجاد بدائل محلية للبضائع القادمة من دول الحصار، ولقيت أيضاً مشاريع وطنية دعماً حكومياً وترحيباً من المستهلكين.
الحديث الآن في قطر، عن حالة تشبه انفصاماً عن الواقع يعرضها إعلام دول الحصار، فالتباين بين ما يجري على الأرض وبين ما يسوّق له أصبح صارخاً، بل ذهب بعض الأهالي للحديث حتى عن خير وجدوه في ما ظنوه يوماً كرهاً لهم.

نقطة الانطلاق
ولمواجهة حصارهم المادي، كانت المحطة الأولى للشعب القطري، ونقطة الانطلاق، هي التلاحم والتكاتف الذي أظهره أبناء شعبنا، تجاه قيادتهم، فمنذ اليوم الأول، شعر القطريون، أن وطنهم مستهدف، وأن ثمة من يريد أن ينصب نفسه وصياً عليهم، فلجأ الجميع إلى الوحدة، التي هي مصدر القوة، وتحولت شوارع الدولة من أقصاها إلى أقصاها، في أيام معدودة، إلي معرض فني، ولوحة كبيرة، عنوانها: «تميم المجد»، وانطلق الجميع، للتعبير عن الولاء والمحبة، للقيادة الرشيدة، وإعلان الدعم الكامل، لما يتخذه قائد المسيرة من قرارات، وهو ما عبرت عنه مجلّة «فوربس» الأميركية، في مقال موسّع أعدّه الباحث المتخصّص في السياسات الدولية دوغ بانداو، بقولها إن «الإنجازات» التي حققتها دول الحصار تتمثل بـ: حشد القطريين وراء أميرهم.
نموذجنا الأخلاقي
وفي الوقت الذي كانت الحملة فيه على قطر ضارية، من حيث الأكاذيب والافتراءات، وفي عز التجاوزات التي وصلت حد البذاءات، من إعلام دول الحصار، كان نقطة الانطلاق الثانية، هي حصارنا لهم بأخلاقنا، الذي كان أقوى وأقيم، فعندما لاحظت الحكومة، ما يحدث من استفزاز متعمد، من قبل إعلام الحصار الفاجر، كانت النصيحة واضحة، بأن يحافظ القطريون، والمقيمون، على الخلق القويم، وألا يواجهوا السفه بالسفه، ولا البذاءة بالبذاءة، وإنما يدفعون بالتي هي أحسن، وأصدر مكتب الاتصال الحكومي نصيحته، ونشرتها الصحف القطرية، منطلقين من قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ» سورة إبراهيم.. هذا النموذج الأخلاقي القطري، استحق عليه القطريون تلك الجائزة القيمة، التي تمثلت في إشادة حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، في خطابه قبل أيام، عندما قال: «أشير هنا بكل اعتزاز إلى المستوى الأخلاقي الرفيع الذي يتمتع به هذا الشعب في مقابل حملة التحريض والحصار الذي تلاها، وإلى جمعه بين صلابة الموقف والشهامة التي تميز بها القطريون دائماً، حيث أذهلوا العالم بحفاظهم على المستوى الراقي في مقاربة الأوضاع، على الرغم مما تعرضوا له من تحريض غير مسبوق في النبرة والمفردات والمساس بالمحرمات، وحصار غير مسبوق أيضاً في العلاقات بين دولنا.. كان هذا امتحاناً أخلاقياً حقيقياً، وقد حقق مجتمعنا فيه نجاحاً باهراً، إذ أثبتنا أنه ثمة أصول ومبادئ وأعراف نراعيها حتى في زمن الخلاف والصراع، وذلك لأننا نحترم أنفسنا قبل كل شيء، وأدعو الجميع إلى الاستمرار على هذا النهج، وعدم الانزلاق إلى ما لا يليق بنا وبمبادئنا وقيمنا».
التحرك الدبلوماسي
وبالتوازي مع التكاتف والتلاحم الشعبي، كانت التحركات الدبلوماسية الواعية الحكيمة، التي استطاعت إقناع الرأي العام الإقليمي والعالمي بموقف قطر، واصطفاف العالم مع رؤية قطر الداعية للحوار الدبلوماسي، كسبيل وحيد لحل الأزمة، دون مساس بسيادتها، أو فرض إملاءات عليها، إضافة إلى تشكيل رأي عام عالمي، يؤيد ما ذهبت إليه قطر، من رفض قاطع للمطالب الثلاثة عشر التي قدمتها دول الحصار، لما فيها من مساس بالسيادة الوطنية، وتدخل سافر في الشؤون الداخلية، ناهيك عن المطلب المرفوض عالمياً، وليس قطرياً فقط، والمتعلق بالدعوة لإغلاق قناة الجزيرة.
وبالفعل حققت الدبلوماسية القطرية بأدائها الرصين وحضورها اللافت نجاحاً كبيراً في شرح وجهة نظر دولة قطر والحقيقة الغائبة وراء الاتهامات الباطلة التي وجهت إليها بدون سند أو برهان والتي أدت إلى قرارات وفرض إجراءات جزافية لحصار قطر في سابقة تاريخية، بل إن النجاحات المشهودة للدبلوماسية القطرية قد حاصرت فعلياً دول المقاطعة ووضعتها في خندق الدفاع عن النفس في أكثر من مناسبة.
انتهاكات الحصار
كما كان لجهود اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان، دور بارز في التحرك على صعيد فضح الانتهاكات الحقوقية لدول الحصار، وتوثيقها، والمطالب القانونية الدولية لاستعادة هذه الحقوق، وهو ما أيدته المنظمات الحقوقية الدولية، بشكل واضح وقاطع، فعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد طالبت بعثة حقوقية أوروبية زارت الدوحة، الأحد جيران قطر برفع «الحصار» عنها، معتبرة انه يؤثر على السكان المدنيين.
وقال عبدالمجيد مراري، مدير قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في منظمة «ايه اف دي» الحقوقية الدولية في مؤتمر صحفي في الدوحة،: «نطالب دول الحصار بإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل الخامس من يونيو وتعويض المتضررين ولم شمل العائلات والأسر والسماح للدارسين باجتياز دورات استدراكية حتى لا تضيع عليهم سنتهم الدراسية».
وكان يشير إلى تاريخ قطع السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر علاقاتها مع قطر بتهمة دعم «الإرهاب».
وفرضت السعودية وحلفاؤها عقوبات اقتصادية على قطر وأمرت المواطنين القطريين بمغادرة أراضيها واستدعت مواطنيها المقيمين في قطر. وأعربت الطبيبة النفسية ميريد تاغ، العضو في الوفد، عن قلقها على وضع الأطفال «الذين فصلوا» عن أمهاتهم.
أما باحثو منظمة هيومن رايتس ووتش، الحقوقية، فقد قابلوا ووثقوا حالات 50 مواطناً من قطر والبحرين والسعودية، وأكثر من 70 وافداً أجنبياً يعيشون في قطر، انتهكت فيها حقوقهم بسبب إجراءات الحصار المفروضة منذ 5 يونيو الماضي.
من بين من قابلهم باحثو هيومن رايتس ووتش، من الحالات التي فقدت الرعاية الطبية بسبب الحصار، المواطنة «أماني»، التي قالت إن ابنتها البالغة من العمر 15 عاماً تعانيمشكلة في العمود الفقري منذ الولادة، حيث خضعت لسلسلة من العمليات في مستشفيين بالرياض منذ أن كانت رضيعة. قالت إن ابنتها أجرت في فبراير عملية جراحية في الدماغ، وكان من المقرر أن تُجرى لها عملية جراحية أخرى في الرياض بتاريخ 17 يونيو، إلا أنها فوتتها بسبب إغلاق الحدود، ومنع الدخول طبقاً لإجراءات الحصار الجائر، وأضافت بقلق بالغ: إن نوبات الصداع تزداد حدة، على نجلتها، وإن الأمر قد يتطور وتصاب بالشلل، فهي بحاجة إلى حل فوري.
المأساة نفسها، وإن كانت بحالة مغايرة يعاني منها، المواطن «وليد»، الذي قال إن ابنه كان من المقرر أن يخضع لجراحة تجميلية في مستشفى بالرياض يوم 9 يونيو لكن ذلك لم يتم بالطبع، مما يؤثر سلباً على الحالة النفسية والصحية للابن.
أما «ريم» التي عاشت في البحرين مع زوجها وأطفالها البحرينيين مدة 36 عاماً، فقالت إنها تركت وراءها زوجها البحريني البالغ من العمر 70 عاماً، دون رعاية، وإنها اضطرت إلى أن تصطحب معها، ابنها البالغ من العمر 25 عاماً، وهو مواطن بحريني، يعاني إعاقة ذهنية وصرعاً ويحتاج إلى علاج طبي منتظم، مضيفة إنها بكل أسف تخشى عواقب اكتشاف السلطات البحرينية وجود هذا الابن المريض بهذا المرض الخطير معها في قطر، بسبب العقوبات التي فرضتها دول الحصار على مواطنيها، لسفرهم أو إقامتهم في قطر.
لم يتوقف الأمر عند معاناة المواطنين القطريين، ولكن شاركهم المأساة والمعاناة مواطنون من دول الحصار، من بينهم محمود، وهو سعودي، لم يرحم الحصار شيخوخته، ولا معاناته مع المرض، فعمره 67 عاماً، يعيش ويعمل في قطر لأكثر من 10 سنوات.
قرار «ايكاو»
وقد بدأت قطر تجنى نتاج تحركاتها الدولية المدروسة والموثقة، حيث يعتبر إعلان منظمة الطيران المدني التابعة للأمم المتحدة، «إيكاو»، في ختام اجتماعها الاستثنائي في مدينة مونتريال الكندية يوم الإثنين الماضي، بداية لكسر الحصار الجوي كاملاً على قطر وانتصاراً للبراهين التي قدمتها دولة قطر ضد بلدان الحصار الخليجية، إذ طالبت المنظمة الدول الأعضاء بالالتزام باتفاقية «شيكاغو» التي تنص على حرية الملاحة الجوية، ودعت المنظمة جميع أعضائها للتعاون من أجل ضمان سلامة وأمن الطيران.
كان وزير المواصلات والاتصالات القطري، جاسم بن سيف السليطي، قال لوكالة الأنباء القطرية يوم الثلاثاء، إن بلاده ستتقدم للمنظمة الدولية للطيران «إيكاو» بملف جديد كامل يطالب «بفتح الممرات الجوية فوق دول الحصار» لقطر بعد أن تمكنت من تحقيق نتائج إيجابية في ملفها الأول.
عندما اتخذت دول الحصار، قراراتها الجائرة ضد قطر، صباح 5 يونيو الماضي، كانت تتصور أن حصارها، سيجبر قطر على تقديم ما لا تقبله، لكن المدهش، أن قطر استطاعت أن تحاصر الحصار نفسه، فحصارهم كان ماديا، بإغلاق الحدود والأجواء والموانئ، بينما كان حصار قطر لهم، والذي أثبت نجاعته، حصاراً أخلاقياً.
copy short url   نسخ
06/08/2017
1958