+ A
A -
خاص من باريس بقلم - باسم توفيق



نحن نتحسر على ما مضى من تاريخ.. هذه حقيقة قد تكون مطلقة وتراجيدية في بعض الأحيان وهذا بالتحديد ما يواجهه كتاب السير الذاتية الآن حيث لا يحظى معظمهم بحيوات عظيمة وعبقرية للمعاصرين وأصحاب التاريخ القريب ومن ثم لا يستطيع أحدهم أن يفرد كتابا كاملا عن شخصية من شخصيات عصرنا الحديث الفنية أو السياسية إلا إذا حوى هذا الكتاب الكثير من الخطل والافتراء ومن ثم علينا أن نعترف أن البحث والتنقيب في تضاعيف الشخصيات القديمة والتي لم يسلط عليها الضوء هي الأكثر نفعا لكتاب السير الذاتية بحيث يكون استحضار هذه الشخصيات من بطن التاريخ ودهاليزه المظلمة أكثر إمتاعا للقارئ والكاتب معا من سرد أحداث عادية في حياة شخصية معاصرة لم تبلغ من المجد معشار ما بلغته شخصية من شخصيات العصر الماضي.
ولذا علينا أن نحسد كتاب السير القدامى أمثال بوردو وزفاييج ودانالي والذين كانت في معيتهم وبالقرب منهم شخصيات عظيمة وعبقرية أرخوا لها فوجدوا مادة خصبة يجللها الفخار والتعظيم من كل الجوانب على الرغم من وضاعة أصول بعض هؤلاء العظماء إلا أنهم بلغوا شأوا بعيدا من المجد والتأثير في العالم أجمع وهذا هو شأن شخصيتنا اليوم التي أطلق عليها مرارا وتكرارا ألقاب لعل أعظم ملكات الأرض لم يحظين بها فحصلت على لقب سيدة المسرح الفرنسي ثم سيدة فرنسا الأولى ثم أميرة أوروبا غير المتوجة ثم سيدة القارات الخمس والكثير من الألقاب والمسميات التي استحقتها عن جدارة.. هذه هي سيدة زمانها ولؤلؤة فرنسا وأوروبا في وقتها الممثلة المسرحية سارة برنار التي حلت ذكرى وفاتها الرابع والتسعون هذا الأسبوع وبينما قدمت مسارح مثل الكوميدي فرانسيز والأوديون في باريس وهي أكثر مسارح تألقت عليها سارة برنار بينما قدمت احتفالات متواضعة أو قل رمزية إلا أن مسرح رابطة ليبرينسبير قدم عملا مسرحيا حرا يحسد عليه قدم فيه جزءا لا بأس به من حياة سارة برنار بل وقدم بعض الأسرار عن حياتها إلا أن العرض ركز بشكل كبير على طفولتها وصباها كما ركز على علاقتها بقطبي الأدب الفرنسي فكتور هوجو والكسندر دوماس، وقبل أن نتحدث عن هذا اللغز وهذه القامة العالية التي تدعى سارة برنار علينا أن نتساءل لماذا لم يخصص كل من الأوديون والكوميدي فرانسيس المسرحين اللذين حفرت سارة برنار اسمها على خشبتيهما بحروف من ذهب؟ الحقيقة أن اضطراب النشاط المسرحي في باريس وفي فرنسا كلها يكاد يكون كبيرا بل حتى أننا نرى أن المسرح الباريسي مثله مثل معظم مسارح العالم يعاني تراجعا واضطرابا كبيرا فالبرنامج فقير مقارنة بأربعين أو خمسين سنة مضت والعروض التجريبية والحداثية والحركية تعج بها قوائم هذه المسارح الكبرى وهذا بالتحديد يؤثر على مساحة المسرح الحقيقي في النشاط المسرحي هذا المسرح الحقيقي التي تشكل الرواية والأقصوصة المسرحية ذات الحبكة أهم أركانه، ومهما تذرع كتاب العروض الحداثية بأنهم يسيرون وفق نص غير مرئي أو غير منطوق وأنهم يسيرون في سيناريو معد سلفا إلا أن الشكل المعروف للنص المسرحي وطريقة معالجته على المسرح يظل هو الطعم الحقيقي والمقبول لما يعرف بفن المسرح.. وربما مسارح الجيب التي أعيد فتحها مرة أخرى في باريس تعيد النشاط المسرحي الباريسي مرة أخرى لطريقه الصحيح ومجده القديم.
كما قلنا إن عرض سارة برنار الذي قدمه مسرح رابطة ليبرنسبير يركز أكثر ما يركز على طفولتها وصباها ويعرض للأحداث الكبيرة التي أدت بها لأن تكون هذه القامة المسرحية العظيمة والعرض كتبه وشارك فيه شانتال فيرير وسيمون أوشيتزي، لكن الحقيقة أن عرض سيرة سارة برنار لا يمكن معالجتها في عرض مسرحي لتنوعها وتعدد الأحداث والوقفات فيها ومن ثم يجب إسقاط الوحدات الثلاث المسرحية الحدث والمكان والزمان ولا يمكن معالجتها في فيلم سينمائي إلا إذا كتب السيناريو بعناية واختزال شديد ولنا وقفة في حياة سارة برنار ربما تأتي بجديد ليعرفه القارئ عن هذه المعجزة التي انحنى لها الأباطرة والملوك وتسابق على خطب ودها الأمراء والنبلاء والوجهاء في أوروبا كلها.
يروي عبقري المسرح المصري الفنان نجيب الريحاني أنه كان يسير بصحبة عزيز عيد في شارع عماد الدين ليلا فوجد حشدا غفيرا من الناس يتصارعون مندفعين كطوفان جارف نحو باب مسرح البارداي القديم ويحاول من هم في المقدمة أن يحملوا مقعد سيده قعيدة مبتورة الساق ولما سأل الريحاني أحد المتدافعين قال له الشاب ألا تعرف سيدة المسرح في العالم كله سارة برنار؟ ومن ثم تسابق معهم الريحاني لحمل مقعد سارة برنار التي لم تفقد مجدها مطلقا بفقد ساقها ولم تفقد حظوتها لدى جماهير المسرح في العالم في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وعلى القارئ الكريم أن يتخيل أنه في عصر لا توجد فيه وسائل إعلام حديثة لا تليفزيون ولا إنترنت وحتى الإذاعة كانت وليدا جديدا كيف لسارة برنار أن تصل لهذه الحظوه في القاهرة؟ وقبلها كانت في إسبانيا وحينما همت بالنزول من القطار كان في انتظارها أكثر من خمسة آلاف من الإسبان وتدافع الجمع لحمل مقعدها بل وأكثر من ذلك أنه من لم يستطع أن يشارك في حملها خلع معطفه وألقى به ليسير عليه الرجال الحاملون لمقعدها حتى تصل للعربة التي تقلها لمكان إقامتها... وهذا المشهد كان يتكرر في كل المدن التي زارتها من موسكو لإسطنبول ومن انجلترا لنيويورك.
كانت سارة برنار التي ولدت في عام 1844 والتي توصف بأنها سيدة المسرح في العالم ابنة غير شرعية لأم هولندية وأب فرنسي والذي اختلفت الروايات حول كنية هذا الأب فالبعض قال إنه محامٍ ريفي مغمور كان قد تعرف على أمها أثناء دراسته في باريس والبعض يقول إنه بحار وهكذا حتى أن العديد من علية القوم نسبوا سارة برنار لهم لكثرة حبهم لها فيما بعد لكنها ولدت كما قلنا لأم تحيا حياة المرح واللهو وحيث كانت خليلة لعلية القوم في فرنسا ومن ثم لم ترد أن تكون طفلتها في معيتها فعهدت بها لخادمة تربيها في بيتها نظير مقابل من المال لكن الطفلة لما بلغت سن الرابعة لم ترد أن تحيا مع الخادمة فألقت بنفسها من النافذة وأصيبت إصابة أقعدتها في بيت أمها لعامين ثم أرسلتها والدتها للدير حتى بلغت الرابعة عشرة وكانت راهبات الدير قد قررن طردها لميولها الدنيوية حتى قيل إنها كانت تواعد الشباب على سطح الدير ليلا، أحب عشيق أمها الدوق دي مورني أن يبعدها عن البيت فأرسلها لمعهد التمثيل والذي لم يكن يقبل بها لولا وساطة دي مورني وهذا قد هيأ لها بعد أن تخرجت أن تعمل في الكوميدي فرانسيز الذي كان يعتبر منارة المسرح آنذاك لكنها لم تكن تحب التمثيل وطردت من الكوميدي فرانسيز لأنها كانت نفورة شرسة فسلكت مسلك أمها في بادئ الأمر لكنها عادت بقوة للمسرح وتألقت فيه بعد أن تركت عشيقها الذي قرر الزواج وكان من أعرق الأسر البلجيكية وهو الأمير هنري دي لين والد ابنها الوحيد موريس والذي رفضت أسرته الزواج فأبدعت سارة برنار في المسرح لتنسى حبها للأمير هنري دي لين.
وقفت سارة برنار أمام الإمبراطور نابليون الثالث وبدون أن تعرف كرهه لفكتور هوجو الذي كان معترضا على حكمه ولهذا السبب نفي لانجلترا 17 عاما وقفت فأنشدت قصيدة لهوجو فأستاء نابليون الثالث وخرج هو وضيوفه تاركا لها الكوميدي فرانسيز خاليا وكان هذا الحدث أول ما ربطها بقطب الأدب الفرنسي فكتور هوجو وحدث بعد ذلك أنها كانت تقدم مسرحية لألكسندر دوماس على خشبة الأوديون وكان الجمهور يهتف بعد سقوط نابليون الثالث بحياة هوجو ولا يريد أن يسمع على المسارح غير هوجو ومن ثم انقلب الهتاف ضد دوماس الذي كان صديقا لهوجو لكن سارة برنار حسمت الموقف بمعجزة حيث خرجت للجمهور وخاطبتهم قائلة إنكم تريدون العدل وتحبون هوجو لكن ما ذنب دوماس في نفي هوجو؟ فصفق الجمهور وهدأت القاعة وفتح الستار مرة أخرى ليشاهد الجمهور مسرحية دوماس.. وكان دوماس سعيدا جدا فلقد أنقذته سارة برنار فلما فرغت من دورها خاطبها قائلا يا ابنتي إن كل ما أكتب ملكك أنت وسوف أكتب لك رواية لك أنت. وهذا يؤكد مما لا يدع مجالا للشك أن غادة الكاميليا التي أبدعت فيها سارة برنار كان قد كتبها دوماس خصيصا لها من وحي علاقتها بالأمير هنري دي لين ورفض أسرة دي لين زواجهما.
كانت سارة برنار ذات سطوة وتأثير يقترب لفعل السحر على قلوب الأمراء والأباطرة فهذا قيصر روسيا الكسندر الثالث يدعوها لقصره الشتوي وبعد أن قدمت عرضها نزلت لتنحني له فيبادرها قائلا: لا تنحني أرجوك أنا الذي عليه أن ينحني وبالفعل ينحني لها الكسندر في واقعة سجلها التاريخ، الأكثر من ذلك أنه أثناء الصراع بين فرنسا وانجلترا أتت سارة برنار لانجلترا ومنع الرقيب معظم مسرحياتها حتى أنهم رفضوا وساطة الوزير الفرنسي فكتبت سارة برنار خطابا للملكة ماري ملكة انجلترا تقول لها فيه إن مسرحياتها باريسية لكنها غير منافية للأخلاق وسوف أحمل لك جميلا إذا توسطت لي فترسل ماري فورا أمرا للورد كرومر الرقيب آن ذاك والذي عين معتمدا ساميا في مصر بعد ذلك فيرفع الحظر فورا عن مسرحيات سارة برنار، بل أن الأرشيدوق فريدريك ارشيدوق النمسا لما أتت سارة برنار لفيينا وضع قصره تحت تصرفها ولما سئل عن ذلك قال: لا أحب أن أرى ملكة تنزل في فندق، الكل اعتبرها ملكة والكل اعتبرها أميرته الخاصة حتى فكتور هوجو ذلك الرجل العجوز حينما كان يشاهد مسرحية من مسرحياته بعد عودته لباريس تؤديها سارة برنار بكى وأرسل لها اليوم التالي خطابا قال فيه: أبكيتني يا ابنتي حين بكيت وحركت مشاعري أنا العجوز لقد أعدت هوجو للحياة فوق خشبة المسرح. وأرسل لها مع الخطاب سلسلة ذهبية تحمل ماسة على شكل دمعة وقيل إن سارة برنار احتفظت بها حتى ماتت وكانت تقربها لصدرها أثناء أدائها على خشبة المسرح.
كانت سارة برنار تحب أداء أدوار الموت وكانت 80 % من أدوارها تنتهي بالموت ومن ثم صنعت لنفسها تابوتا من خشب الورد وكانت تضعه بجانب سريرها بل أنها أحيانا كانت تنام فيه وهو ذاته التي دفنت فيه حيث سار جثمانها في دورات ثلاث يجوب باريس بين جموع الشعب الذين احتشدوا لتوديع سارة برنار وكانوا كلما عبر جثمانها انحنوا تقديرا لها وعيونهم تذرف دمعا غزيرا حتى مدفنها في مقبرة بير لاشيز الباريسية.
أدت سارة برنار أدوارا طبعت باسمها في التاريخ المسرحي مثل غادة الكاميليا وكليوباترا وثيودورا وهاملت.. والحقيقة أن سارة برنار تسابق فناني عصرها على رسمها بل وكانت السبب في شهرة بعضهم مثل ألفونسو موكا الذي كان يرسم لها افيشات أعمالها المسرحية ومنهم جوفاني بولديني ولي باج ولويس أبيما وغيرهم كثيرون تفننوا في رسم هذا اللغز العبقري الذي يسمى سارة برنار.
توفيت سارة برنار عام 1923 وكانت في سنواتها الأخيرة تمثل بساق واحدة بعد أن بُترت بسبب المرض وتزوجت مرة واحدة من شاب يوناني وسيم كان مدمنا للمورفين والذي قضى عليه في ريعان شبابه.
copy short url   نسخ
06/04/2017
4088