+ A
A -
افتتح المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أمس في معهد الدوحة للدراسات العليا في قطر أعمال المؤتمر السنوي السادس للعلوم الاجتماعية والإنسانية الذي يتناول هذا العام موضوعي «سؤال الأخلاق في الحضارة العربية الإسلامية» و«الشباب العربي: الهجرة والمستقبل». وتستمر أعماله ثلاثة أيام.
وخلال كلمته أكد الباحث جمال باروت، مدير البحوث في المركز العربي، الأهمية العلمية والأكاديمية للمؤتمر الذي يعقده المركز بصفة سنوية منذ عام 2011، مؤكدا التزام المركز العربي بتشجيع البحث العلمي الرزين والمحكم في ميادين العلوم الاجتماعية والإنسانية وعيًا بأهميتها في تحقيق نهضة الإنسان العربي، وفي هذا النطاق أيضا أنشأ المركز العربي «الجائزة العربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية» تحفيزا للباحثين العرب في هذه المجالات العلمية، وسيجرى توزيع الجائزة على الفائزين في دورتها السادسة في ختام المؤتمر يوم الاثنين المقبل.
قال باروت إن المؤتمر السنوي للعلوم الاجتماعية والإنسانية هو مؤتمر أكاديمي متخصص، ومناسبة للتّعارف بين الباحثين والمفكّرين ولتبادل الأفكار والطروحات. ويجرى اختيار مواضيع المؤتمرات وفقا لالتزام المركز بالعمل على تحفيز الباحثين العرب على وضع أجندات البحث العلمي الاجتماعي في الوطن العربي، وفقا لمتطلبات المجتمعات العربية بخصوصياتها، وتشجيع الدراسات التطبيقية من دون الإغراق فيها، وأخذ النظرية بعين الاعتبار.
وأضاف باروت أن المركز يعقد مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية منذ العام 2011، وقد خصصت دوراته السابقة في محور العلوم الاجتماعية لموضوعات: سياسات التنمية الإنسانية المستدامة، وجدلية الاندماج الاجتماعي، وبناء الدولة والأمة في الوطن العربي، والجامعات والبحث العلمي في الوطن العربي، وتحولات التمدين في المدينة العربية. وتناول المؤتمر في محور العلوم الإنسانية موضوعات: الهوية واللغة في الوطن العربي، وأطوار التاريخ الانتقالي: مآل الثورات العربية، وأدوار المثقفين في التحولات التاريخية، وسؤال الحرية في الفكر العربي المعاصر. وهي ذات المواضيع التي ناقشها الباحثون الذين تنافسوا في الجائزة العربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية في دوراتها السنوية المواكبة للمؤتمر، وتوزع الجائزة عادة في نهاية جلساته.
وأكد المتحدث حرص المركز العربي على المستوى العلمي للبحوث التي تقدم في المؤتمر، إذ يعتمد في دورات هذا المؤتمر كما في سائر مؤتمراته السنوية المحكمة على عملية التحكيم وفق الاختصاص الدقيق للمحكمين. ويقر المركز البحوث بناءً على جودتها الشكلية والموضوعية العلمية فقط.
وقد أصبح المؤتمر أحد أبرز المواعيد في أجندة البحث العلمي العربي، ويحظى باهتمام الباحثين العرب في العلوم الاجتماعية والإنسانية في الوطن العربي والخارج، وليس أدل على ذلك من التزايد المطرد في المقترحات البحثية التي يرسلها الباحثون بغرض المشاركة في المؤتمر من دورة لأخرى. فقد أكد باروت أن اللجنة العلمية للمؤتمر السادس للعلوم الاجتماعية والإنسانية استقبلت أكثر من 350 مقترحًا بحثيًا للمشاركة في موضوعي المؤتمر، ووافقت على نحو 150 مقترحًا منها، طالبة من أصحابها إنجازها، وبعد تحكيم ما استقبلته من بحوث جاهزة منهم، أقرت 58 ورقة بحثية من أصل مائة ورقة استلمتها.
يطبع ثراء كبير برنامج أعمال المؤتمر كما درج عليه في دوراته الخمس السابقة، ويشمل ما يناهز 60 ورقة بحثية محكمة يجرى تقديمها خلال جلسات تجمع كل واحدة منها عددا من الأوراق المشتركة في ما تناقشه من أفكار. ومن أجل تمكين الباحثين المشاركين من عرض أبرز ما توصلوا إليه من استنتاجات في بحوثهم ومناقشته مع المشاركين الآخرين والحضور من الجمهور الأكاديمي من أساتذة وباحثين وطلبة، ينقسم برنامج الجلسات إلى مسارين بحسب الموضوعين المختارين للمؤتمر هذا العام، وتجرى جلسات متزامنة في كل واحد منهما. ويضم البرنامج إضافة إلى عشر جلسات في كل مسار، أربع محاضرات عامة على ما درج المؤتمر عليه من دعوة عدد من أبرز الباحثين والمفكرين والأساتذة العرب في الجامعات العربية والغربية للمحاضرة في موضوعي كل دورة من دورات المؤتمر. ويقدّم المؤتمر في هذه الدورة محاضرات لكلٍّ من فهمي جدعان وجورج زيناتي في موضوع الأخلاق في الحضارة العربية الإسلامية، وأيمن زهري ومحمد الخشاني في موضوع الشباب العربي والهجرة.
انطلقت أعمال المؤتمر بمحاضرتين رئيستين تطرحان الإشكالات المهمة التي تتناولها أوراق الباحثين في الموضوع الأول للمؤتمر وهو «سؤال الأخلاق في الحضارة العربية الإسلامية»، فيما ستخصص المحاضرتان الرئيستان في اليوم الثاني من المؤتمر للإشكاليات التي يطرحها المؤتمر في موضوع «الشباب العربي: الهجرة والمستقبل».
تناول الدكتور فهمي جدعان في محاضرة تحت عنوان «مركب أخلاقي حديث للاجتماع العربي»، عدة مسائل متعلقة بما أفرزته التطورات الكونية من أفعال وقيمٍ جديدة كليا، تفرض تجاوز الأخلاق الكلاسيكية التي حكمت العديد من الظواهر الإنسانية. فطرح السؤال الأخلاقي اليوم يستوجب إنفاذ مدونة أخلاقية معززة بسياسات مرتبطة بسيادة القانون. وأكد أن التطورات العلمية اليوم في البيئة والتنمية الاقتصادية المحكومة بالرأسمالية والبيولوجيا، باتت تنذر بتغيير الإنسان والسياسي الذي يستخدم القوة والهيمنة والفنون، التي تضرب عمق الذائقة البشرية. ومقابل ذلك تظهر قيم جديدة لا سبيل لتجاهلها الحرية، العدالة، المساواة، الكرامة الإنسانية، المسؤولية، النزاهة، جودة الحياة، احترام الحياة، المشاركة، الديمقراطية، المواطنة، الاعتراف، الإنصاف، وغيرها. وإزاء كل هذا يثور السؤال الأخلاقي بقوة، ودون أن يقطع مع معاني الخير والشر والسعادة التي كانت وما تزال الموضوع الرئيس للأخلاق النظرية، وتطرح أسئلة أخلاقية، من قبيل: إلى أي مدى يخضع الممارس الطبي للمساءلة؟ هل تتم المحاسبة في الأمور المتعلقة بالمخالفات الأخلاقية؟ ماذا عن الاستغلال والتمييز بين الجنسين؟ هل يلتزم الإعلاميون والساسة بالأخلاق؟ هل ثمة التزام بأخلاق مهنية ومدونة سلوك في الأمور الاجتماعية والسياسية والإعلامية والتنمية؟
وخلص المحاضر إلى أن التجليات الجديدة للعالم تفرض إنفاذ مدوّنة سلوك أخلاقية صريحة معززة بالقانون وبسياسات الدفاع الاجتماعي. ولا يكفي أن يقال إن الضمير أو الدين يمنعان من هذه الإساءات. وكذلك لا يستقيم القول إن منظومة «الأخلاق المطبقة» ليست إلا إحدى «بدع الحداثة» البشرية العقلية، وأن الأجدى للمجتمعات العربية هو استنطاق النصوص الدينية والأخلاق الدينية حيث تجد كل هذه الاختلالات أحكامها المطابقة في النصوص. ويؤكد جدعان أنه لا يتصور تعارضا بين الاثنين، فأي نظام أخلاقي متسق مع منطق العصر واشتراطاته من حيث المسؤولية، والتضامن، والعدل، والنزاهة، والصدق، والمشاركة، والالتزام، والرحمة، والنظام، والحرية، والكرامة الإنسانية، واحترام النفس – الجسد، والخير العام.. لا يمكن إلا أن يكون، من حيث المبدأ على الأقل، متضافراً مع «النصوص المُحْكَمة» ومع «الرؤية المقاصدية» لـ«الكتاب».
وقدم الدكتور جورج زيتاني محاضرة تحت عنوان «سؤال الأخلاق في الحضارة العربية- الإسلامية وبعض قضاياه في عصر العولمة». وتناول المحاضر استلام الحضارة العربية الإسلامية لمهمة البناء المعرفي الإنساني في أعقاب انهيار روما وإمبراطورية الشرق (القسطنطينية) وحدث ذلك على الخصوص بعد إنشاء «بيت الحكمة» في ظل الخلافة العباسية في بغداد على يد الخليفة المأمون. وانطلق المحاضر من إسهامات ابن باجة وابن طفيل، وتأثيرهما في الغرب والتنظير للفردانية الغربية، التي جاءت مع الرأسمالية الصناعية. وانتقل بعد ذلك لمناقشة الإشكالات القيمية والأخلاقية التي جاءت بها العولمة التي استبدلت الثورة الصناعية بالرأسمالية المالية، وهيمنة عالم التواصل والحضارة الرقمية، وهذا ما خلق مشاكل جديدة تهم كل مستقبل البشرية. وتوقف زيتاني عند قضايا البيئة من تلوث واحترار مناخي، ثم انتقل إلى مشكلة بدء العلماء يطرحون خطورتها وهي دور الذكاء الاصطناعي والروبوتات والوجه المظلم الخطير الذي قد يواجه الإنسانية. وتوقف عند بعض الأسباب التي شكلت عائقًا أمام نجاح الأنظمة العربية في إنجاز ديمقراطيتها، ونبه أولًا إلى الوقائع التاريخية وكيف أنها تطرح مشكلة الزمان، وهي مشكلة أهملتها تمامًا حضارة التواصل والثورة الرقمية. فإلغاء المسافات لا يعني إلغاء الماضي وترسباته وأحقاده. وقال إن «العقل يتقدم من دون اعتبار أخلاقي فيجد السدود أمامه، إذ إن ماضي البشرية هو عبارة عن حروب متلاحقة وصراعات لا تنتهي، ولا بد من خلق ذاكرة سعيدة للبشرية، كل البشرية فإنسانيتنا تجمعنا كلنا»، غير أن إرادة الهيمنة تشكل دومًا بؤرة مفتوحة لصراعات متجددة. وخلص إلى أن ديالكتيك الاستقرار والتقدم وحده يفتح أبواب المستقبل ويتغلب على أشكال العنف غير المبرر، إذن الأمل يبقى ويتجدد ولا يموت، لأن النور يبدد دومًا كل ظلامية.
copy short url   نسخ
19/03/2017
1788