+ A
A -
يفتتنُ الناس بالفنان إذا لمسوا عنده أفكاراً مجنونة، خارجة عن المألوف. إن هذا يخلب لبهم، وينال استحسانهم.
لكن المبدع والفنان قد يدفع ضريبة باهظة إذا ما أراد إنتاج أعمال فنية أو أدبية مجنونة! هل ثمة إرادة في الأمر؟ كلا، إذ ليس بمقدور الفنان أن يدفع نفسه عمداً نحو الجنون لينتج أفكاراً مجنونة، ذلك لأنه مجنون سلفاً. ولكن هذا الجنون غير ظاهر، ولا يمكن ملاحظته إلا بصورة طفيفة، وفي حالات خاصة نادرة جداً.. ويمكننا أن نُشخص هذا الجنون الإبداعي بأنه «جنون باطني»، ومصدره هذه المرة ليس العقل الواعي كما هو مألوف، ولكن «العقل الباطن».
المجنون العادي لديه خلل في العقل الواعي، وأما الفنان فلديه خلل في العقل الباطن. كلاهما مجنون، وكلاهما وجهان لعملة واحدة، وكلاهما يمثلان السالب والموجب، والقبيح والجميل، والتدهور والتطور.
اهتم الطب النفسي بالنوع الأول من الجنون– جنون العقل- وأحرز هذا القدر أو ذاك من النجاح.
ويبقى النوع الثاني من الجنون – جنون العقل الباطن- هو الذي لم يتمكن أحد من تحليله وكشف أسراره، وإنما هناك تكهنات لا يزال العلم أبعد ما يكون عن الإلمام بها.. والدليل هو أن العبقرية ليست في متناول اليد، ولا يمكن توليدها عن طريق التدخل البشري. وها هي الهند الدولة الفقيرة تزخر بعدد متزايد من العباقرة في المجالات العلمية والفنية، مع أن بنيتها التحتية متواضعة، ولا تقارن مثلاً بالبنية التحتية الممتازة في أوروبا الغربية.
في الأدب العربي لدينا نماذج كثيرة للجنون الباطني، ولعل أبرزها على سبيل المثال الشاعر المتنبي، الذي نقل إلى العرب عدوى جنونه الباطني، فجُنَّ الناس بشعره، فقرؤوه وحفظوه، واستشهدوا بأبياته التي غدت أمثالاً وحكماً ترددها الألسنة جيلاً بعد جيل. وعندما نتأمل سيرة حياة هذا الشاعر العبقري، فسوف ندرك مقدار معاناته من أعباء هذا الجنون الباطني الذي لم يشعر به أحد سواه.. لقد كان عقله الباطن يطالبه بأمور مستحيلة، وليست في إمكانه، مثل أن يكون ملكاً أو نبياً، فلا يملك أمام هذه المطالب الجنونية– وهي كذلك فعلاً- سوى أن يُعبر عنها بإبداع متجاوز ومُحلّق في الأعالي، ليتخفف من آلامه وعذابه اللاشعوري.
يُعرفُ المجنون بأنه مجنون إذا قام بأمر غير معقول. ويُعرفُ الفنان بأنه عبقري إذا قام بأمر فوق المعقول. وإذا قام الفنان بإنتاج عمل فني يتجاوز المعقول– أي السائد في عصره- إلى المستوى الذي يُوصف بأنه فوق المعقول، فإنه يُجازف بالخلط بينه وبين المجانين العاديين الذين يدعو لهم الناس بالشفاء.
أية أفكار سابقة لزمنها سوف تُوصف بأنها أفكار مجنونة. عندما فكر (عباس بن فرناس) في الطيران- وقد نجح في الطيران لمسافة ولكنه تعرض للأذى- فقد عده كثيرون رجلاً مجنوناً.. وبسبب هذا الموقف غير العلمي من تجارب عباس بن فرناس، تأخر طيران الإنسان ألف عام.
هناك فرق بين الشخص المجنون الذي يحتاج إلى علاج، وبين الفكرة المجنونة التي تحتاج إلى الدرس والتحليل والصبر والأناة لمحاولة فهمها.. وغالباً فإن الجنس البشري مدين بحضارته وتقدمه وفنونه وآدابه لحفنة بسيطة من الأفكار المجنونة.
copy short url   نسخ
14/03/2017
4026