+ A
A -
دَرَجَ - في خطاباتنا، وفي معاملاتنا-أنْ تسْمعَ أحَدَهم - خلالَ لحْظةِ اعترافٍ مُسَرَّبَةِ- يبُوحُ لكً بأنَّه يُكِنُّ لكَ التقديرَ والمَوَدَّةَ والإعجابَ بشخْصِكَ، أو مُنْجَزِكَ، أو هُمَا معًا...
يا هذا... لِمَ تُكابدُ مُعاناةَ التكتُّمِ.. طيلةَ حَيَاتِكَ؟ ولِماذَا تُكابرُ في التعبير عن حُبِّك، وإعجابِكَ.. وتقديركَ لشخْصٍ مُعَيَّنٍ؟ هل تَجِدُ غضاضةً في ذلك؟
هذه ليستْ علاقةَ حُبٍّ مشْبُوهٍ يَجِبُ التستُّرُ عليْها، بل هي مَوَدَّةُ أخٍ.. لأخٍ، يفْرضُ عليْكَ مَنْطقُ الروحِ الإيجابيةِ الاجتماعية، وجَوْهَرُ الإيمانِ في دِينِنا الحنيفِ، ووصايا رَسُولنا نَبِيِّ الرحْمَةِ والمحبة -عليه الصلاة والسلام- أنْ تُشِيعَها، وتَبَثُّها في وجْه أخِيكَ صباحا.. مساء، ما دُمْتَ تشْعرُ صادقًا بحُبِّه، فلا تلْقاهُ إلاَّ وقلتَ له- بمِلء فَمِكَ، وقلبِكَ، ووجهكَ-: «يا فلان.. إنِّي أحُبُّكَ»، فيُجبيكَ: «أحَبَّكَ اللهُ الذي أحْبَبْتَنِي فيه»؛ وهكذا تنْتَشِرُ المَوَدَّةُ والرحْمَةُ في كيان المُجْتمعات.. وترْتفعُ الروحُ المَعْنَوِيةُ للمُتَوَادِّيَن، وتَتَوَقَّدُ حَافِزِيةُ الإبْدَاعِ، والإنْجازِ، باعْتِبارِ ذلك الحُبِّ- رمْزيا- رأسَ مالٍ، مُكْتَسَبًا عبْرَ الاسْتثْمارِ في قِيم مَعْنَوَيةٍ يَسْتَحِقُّ صاحِبُها التقديرَ، والإعجابَ....
فكيف تظلُّ صامتًا.. مُعْرِضًا- «يا أيها المُدَّثِّرُ» بحِجَابِ «المُعاصَرَةِ، المانِعَةِ من المُناصَرَةِ».. حتَّى يُغَيِّبَ الموتُ منْ أحْبَبْتَ - في زَعْمِكَ- لتُعْلِنَ حُبِّكَ، وإعْجَابَكَ يَوْمَ لا يَنَفَعُ الإعْلانُ..
حِينئذٍ لنْ تكُونَ دُموعُكَ - في نظري- إلا «دُمُوعَ تَمَاسِيحَ»، ولنْ تَكُونَ تَأوُّهَاتُكَ-وحَتَّى مَرَاثِيكَ- إلاَّ مثْلَ عَويلِ النَّادِبَةِ المَأجُورَةِ أو المُتَملِّقَةِ. ولنْ تَكُونَ اعْتِرَافاتُكَ بالفضْلِ للفقِيدِ إلا مثْلَ الطبيبِ الذي يأتِي بعْدَ الموْتِ!
فابْقَ على تَكَتُّمِكَ السَّفِيهِ، وصمْتِكَ غيْرِ النزِيهِ، فنَفْسُكَ- في التشْخِيصِ النِّهائي- غيْرُ سَوِيَّةٍ مُطْلَقًا.
ولقد قلتُ في مَرْثِيتي لنفْسي، حينما تخيَّلتُ المُتَباكينَ، النَّادِبينَ، بعْد موْتي، وهمْ منَ كانوا يَزمُّونَ شِفاهَهم عن الاعْترافِ للْحَيِّ، ويبالغونَ في الثناءِ، والتفجُّعِ عليْه ميتًا:
سَفَهٌ.. جُحُــــودُ المَرْءِ.. حَـيًّا.. فَضْــلَهُ
والجُــــودُ.. بعد الموتِ.. بالتَّـثْمِــينِ
لا تَطْـوِنِي.. حَـيًّا.. وَتَنْشر مَيِّــــــتِـي
فَمَــــدامِعُ التِّـمْـساحُ.. لا تَعْنِـــــــينِي
قُلْ لِـي: أُحِبُّكَ.. مِلْءَ وَجْهِي.. أغْتَنِي
طَرِّزْ.. حَمِــيدَ الذِّكْرِ.. فَـوْقَ جبــيني
تَحْــيَا الفَضــائلُ.. إنْ تَضَوَّعَ نَشْـرُهَـا
وتَمُوتُ.. كَالأزْهــار.. بالتخْـــــــزين
الحقيقة أنَ إعْلانَ الكراهية رُبَّما كانَ أفْضلَ منْ كتْمانِ المَحَبَّةِ، لأنه أصدق، وكِلاهُما لا خيْر فِيه..
وإذا كانَ مُجْتَمَعُنا الشرْقيّ، يُحَرِّجُ في إفْصَاح المرْأة- بالدَّرَجة الأولى، والرَّجُلِ بالدرجة الثانية- عنْ عاطفةِ الحُبِّ تُجاهَ بعْضهما البعْض، حتَّى ولوكانَ ذلك البَوْحَ داخِلَ إطار الزوْجية الشرْعية، فمَا بالُكَ لوْ كانَ التصريحُ بالحُّبِ، خارجَ إطارِ الزواج، لكنّني أعتقدُ أنَّ كلمة «أحُبُّك» في حدِّ ذاتِها، ليست حَرامًا أبدا، ولا مُنْكَرًا من القوْل، ما لمْ تتحوَّلْ إلى مُمَارسَةٍ غيْرِ مشْرُوعَة، ودليلِي أنَّ كثيرًا من أجِلَّاءِ التابِعينَ، وخصوصًا الشعراء من «فقهاءِ المدينة السبعة» (عروة بن أذينة، وعبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود) لم يتردّدُوا في إعْلان حُبِّهم لجميلاتِ تَدَلَّهوا بهنّ، في عصْرهم المُزَكَّى، فمِنْ أيْنَ هبطتْ عليْنا عادةُ التحْريج في بوْحِ الحُبِّ البَريء؟ حتى بيْن أفْراد المُجْتمَع منَ الرِّجال... بعيدا عن الرِّيبة، وسَلَفُنا الصالحُ كانَ أكثرَ انفتاحًا، ونَبِيُّنَا- عليه السلام- يَحُضُّنا على إفْشاءِ المَحَبَّة، وإفْشاءِ السلام، وهُمَا مُتلازمانِ؛ حيْثُ لا سَلامَ بدُونِ حُبّ. ألسْنا اليوم أكثرَ حاجةً لنشْر ثقافةِ المَحبَّة والسلام هذه، ونحْنُ فِي هذا الزمَن الرديء، الذي وَصَفْتُه -ذاتَ مَرَّةٍ- بعَصْرِ عَوْلَمَةِ الكراهية، حيْثُ تَكَادُ صِناعةُ الموْت– في حَضارَة الزّرِّ- تتَفَوَّقُ على صِناعة الحياة، وحيثُ يَطغَى على مَفهومِ الحُبِّ طابعُ التدْنِيس، بَدَلَ حُمُولة التقديس، بَعْدَما أفْرِغَ من رَوْحانِيتِه، واخْتُزِلَ فِي بُعْدِه المَادِّي الغَرِيزي، الذي يَتَقاسَمُه الإنْسانُ حَتَّى مَعَ أخَسِّ الكائناتِ الحَيَّةِ، وإذا كُنْتُ أعْتَقِدُ- جازماً- أنَّ إشاعَةَ الحُبِّ الجَميلِ هي أفْضَلُ تِرْيَاقٍ لِمُكافَحَةِ سُمُومِ الكَراهَةِ الفَتَّاكَة، وغَازَاتِها المُتَفَشِّية، فإنَّ اعْتِقادِي راسخٌ– أيْضاً- بأنَّ اعْتِلاجَ الحُبِّ فِي كِيانِنَا مُعَانَاةٌ، والتَّعْبِيرُ عَنْهُ انْتصار، ولهذا أصِرُّ عَلى المُطالَبَة باسْتِرجَاع كلِمَةِ «أحِبُّك» لقُدسِيَّتِها في ذِاتِها، وتطْهيرها من حُمُولَة العار، والعيْب والإباحِية، التي تلبَّسَتْها ظلْما وعدْوانا، وأنْ نوَسِّع مفْهومَها الروحيَّ عن الحَيَّزِ المادي الضيِّق، الذي اخْتزَلَها فيه الاسْتِعْمَالُ الخاطئ.
copy short url   نسخ
27/02/2017
3762