+ A
A -
كتب– مازن حماد
شعرت بالإساءة الشديدة عندما استمعت إلى تعليقات وملاحظات عدد من مساعدي محمود عباس على قرار مجلس الأمن رقم «2334» الصادر في 23 الشهر الماضي والذي قضى فيه ببطلان شرعية أي مستوطنة أقيمت أو ستقام في الضفة الغربية أو القدس الشرقية. وإذا كان هؤلاء المساعدون واقعين في مصيدة المنتفعين من ديمومة الاحتلال أو أقاموا مشاريعهم على هذا الأساس فإننا نفهم تقليلهم من شأن القرار، ونفهم كذلك قول محمود عباس العجيب أن القرار 2334 سيفتح الباب أمام المفاوضات مع إسرائيل.
أقوال هؤلاء الدائرين في فلك المواقف الإسرائيلية لم تَرقَ أبداً إلى مستوى القرار أو خطورته على مستقبل الصهيونية ككل وليس فلسطين فحسب، بل ثمة محاولات متعمدة من قبل هؤلاء الذين لن أذكرهم بالاسم وتعرفونهم واحداً واحداً، لوأد هذا القرار.
تبعات القرار
ما يقض مضاجع الإسرائيليين بشكل خاص ليس القرار بحد ذاته رغم طعنه بشرعية الحركة الاستيطانية من أساسها، بل إن ما يقلقهم تبعات القرار وخاصة من جانب محكمة الجنايات الدولية التي فتحت مدعيتها العامة «فاتو بانسودا» تحقيقاً أولياً في أعمال إسرائيل خلال قصف غزة عام 2014، وفي مستوطنات الضفة الغربية والقدس الشرقية.
وأوضحت السيدة بنسودا منذ ذلك الوقت أنها لم تمض قدماً نحو تحقيق جنائي كامل من دون الحصول على توضيح مهم بهذا الخصوص من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وما يجب التأكيد عليه للعالم ولمساعدي عباس المنتفعين من «مزايا الاحتلال»، هو أن القرار الأممي المذكور يوفر الإرادة السياسية اللازمة للخطوة التي أرادتها المدعية العامة لمحكمة الجنايات. وفضلاً عن ذلك فإن فلسطين دولة معترف بها في الأمم المتحدة منذ العام 2012، كما أنها عضو في تلك المحكمة منذ العام 2014.
ومع دخول قرار مجلس الأمن حيز التنفيذ تستطيع محكمة الجنايات الدولية التحرك في الشهور القليلة المقبلة نحو تحقيق أوفى وأوسع وأدق في الجرائم الإسرائيلية التي يعرف عنها العالم كله تفاصيل وافية، ومن شأن خطوة كهذه من قبل محكمة الجنايات المتحفزة بقضاتها المطلعين على فساد ومافياوية إسرائيل وحماتها وخاصة الولايات المتحدة وذراعها المتمثلة «منظمة ايباك» الأميركية الإسرائيلية التي تدير سياسة واشنطن الخارجية، أن تهدد أمن نصف مليون مستوطن يهودي في الضفة وشرق القدس من بينهم 90 ألفاً يحملون جوازات سفر أميركية، كما سيدفع أي نشاط جنائي لمسائلة القادة الإسرائيليين الجنود العاديين لرفض الخدمة أو المشاركة في أي حروب مستقبلية على الفلسطينيين في غزة أو الضفة.
طابور خامس
وغنيٌ عن القول إن السلطة الفلسطينية تملك إمكانية التسلح بالقرار 2234، كما أن في حوزتها عشرات الخبراء التواقين لمقاضاة إسرائيل ومحاسبتها بالتالي على جرائم إبادة ضد الإنسانية ومجازر لا تحسب أو تحصى بحق الفلسطينيين، ولا أظن حتى اللحظة أن القيادة الفلسطينية تمتلك الشجاعة للإصرار على متابعة القرار ونتائجه.
ولذلك فإنني عندما أسمع فلاناً أو علاناً من مسؤولين فلسطينيين أو عرب يقولون إن القرار المذكور لا جديد فيه، أو أن مجيء ترامب سيعطل كل شيء أدرك عل الفور أنني أمام طابور خامس بكل معنى الكلمة، ذلك أن الفرصة التي تلوح الآن بعد صدور القرار تتيح وضع إسرائيل على سكة المحاسبة والمسائلة، وعرض مسؤوليها في أقفاص المحكمة وهم عاجزون عن رد التهم.
وكان القرار 242 هو أول قرار رئيسي أممي يعرّف بنود الاحتلال الإسرائيلي وقد مر في الأمم المتحدة بالإجماع بعد حرب 1967 - دون تصويت أو فيتو- ولكن يمكن العودة والاستفادة مما جاء وقتها على لسان وزير الخارجية الأميركية «دين راسك» الذي قال بالحرف الواحد: «إنه على الرغم من أن الولايات المتحدة وإسرائيل منقسمتان بحدة حول موضوع الأراضي، فإن واشنطن لم تقدم أي التزام لمساعدة إسرائيل للاحتفاظ بالأراضي التي احتلتها عام1967».
ومن الوقائع الأخرى التي يمكن استخدامها بنجاح ضد إسرائيل سهولة الإثبات بأن الدولة العبرية لا تريد حل دولتين ولا حل الدولة الواحدة ما يعني للجميع أن هذه الدولة الدخيلة على المنطقة ملتزمة باحتلال أبدي للفلسطينيين، والاستمرار في تحويل حلم إسرائيل الكبرى إلى واقع.
كذلك لا تستطيع المؤسسة الإسرائيلية إخفاء قلقها من لجوء محكمة الجنايات إلى تسليط أنظارها على موضوعات مثل نقل السكان وجرائم الحرب، كما يمكن للمحكمة أن تجد في الجرائم الإسرائيلية المثبتة ما يكفي من المبررات لإجراء تحقيقات مشروعه علماً أن الاثنين وأربعين فيتو التي رفعتها الولايات المتحدة في وجه الفلسطينيين منعتها من استغلال الجوانب القانونية اللازمة لاتخاذ إجراءات قضائية ضد إسرائيل من جانب المحكمة.
ثور هائج
وإذا كان تحول بنيامين نتانياهو بعد صدور القرار إلى ثور هائج يريد بقر بطون دول مجلس الأمن الخمس عشرة يشكل دليلاً على عمق الضرر الذي أصاب وسيصيب الدولة العبرية ويكبر كما كرة الثلج المتدحرجة فإن الحقيقة مخالفة للدعاية الإسرائيلية، ذلك أن القرار صاغه في أكتوبر الماضي الوفد الفلسطيني لدى الأمم المتحدة وتم تعميمه على المجموعة العربية ثم عرض على اللجنة الرباعية العربية وأدخلت عليه تعديلات استهدفت حصوله على تأييد أكبر عدد من الدول. وقد أصر الفلسطينيون رغم تراجع مصر بهاتف من ترامب للسيسي عن تبنيها مشروع القرار العربي، على عرضه برعاية السنغال وفنزويلا وماليزيا ونيوزيلندا للتصويت، فنال إجماعاً عززه امتناع واشنطن عن استخدام الفيتو والاكتفاء بالامتناع عن التصويت انتقاماً من نتانياهو وترامب.
من حيث المبدأ، كل قرارات مجلس الأمن ملزمة للأعضاء سواء بموجب الفصل السابع أو السادس والتلكؤ في التنفيذ يعني فرض عقوبات معينة ومتدرجة.
ويشير القرار في ديباجته إلى اتفاقية جنيف الرابعة ومبدأ عدم الاستيلاء على الأراضي بالقوة، كما يشير إلى الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الصادر عام 2004 حول الاستيطان والجدار العازل وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وكذلك إلى حقيقة أن الاستيطان يعتبر انتهاكاً للقانون الدولي والقوانين الإنسانية.
إسرائيل تريد كل شيء
غير أن إسرائيل دأبت في كل مرة على التمادي لشعورها منذ عام 1967 بامتلاك حصانة تجعلها فوق القانون وفوق المساءلة مهما ارتكبت من جرائم إبادة ومهما قتلت من أطفال وليس هذا فحسب، بل أصبحت تتوقع من العالم أن يؤيد احتلالها للأراضي العربية ويؤيد بناء المستوطنات والجدار وضم القدس دون احتجاج وإلا فإن التهم جاهزة ومنها معاداة السامية واستهداف إسرائيل وانحياز الأمم المتحدة.
لكن القرار 2334 له أهمية خاصة تختلف عن غيره من القرارات المتعلقة بالاستيطان وهو القرار الأول من نوعه الذي يعتمده المجتمع الدولي منذ عام 2008، مما يشكل نصراً معنوياً للفلسطينيين الذين فشلوا في إقناع مجلس الأمن لبحث قضية الاستيطان في السنوات الثماني الماضية، وعندما فاجأت الولايات المتحدة العالم ولجأت إلى الامتناع عن التصويت بدل الفيتو الجائر المعتاد، مما شكل سفينة نجاة للأربعة عشر صوتاً الأخرى في المجلس وهذا يعني على ارض الواقع أن هناك إجماعاً عالمياً على رفض السياسة الإسرائيلية بلا استثناء بما في ذلك دول صديقة لإسرائيل مثل فرنسا وبريطانيا وأوكرانيا وروسيا واليابان. وهكذا يصبح الكلام عن التحيز لفلسطين واصطفاف العالم ضدها سخيفاً لأبعد الحدود.
نتانياهو أدرك خطورة الموقف
ولعل أهم ما يجب إقناع العرب قبل العالم به هو أن المحك يكمن في لب هذا القرار الاستثنائي والتوقف عن الزعم بجهل واضح بأن بنوده ليست جديدة وأن الرؤساء الأميركيين بكل أطيافهم السياسية وتاريخهم الشخصي مؤيدون لإسرائيل، وأنهم عند الترشيح يخضعون هم ومرشحو الكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ لامتحان حقيقي يحصلون فيه على شهادة حسن سلوك مقياسه مدى ولائهم للدولة العبرية. وعندما شد نتانياهو شعره من شدة الغيظ في 23 الشهر الماضي عند سماعه نتيجة التصويت على القرار 2334، فقد فعل ذلك لأنه أحس بخبرته الطويلة وكراهيته وعنصريته المفضوحة ضد الفلسطينيين أن دول العالم جميعها تقريباً باتت على قناعة بأن دولة إسرائيل عدوانية وقمعية وعدو للحريات ومقيدة لكل القوانين الإنسانية والأخلاقية ومعطلة لقرارات الأمم المتحدة التي انتصرت للفلسطينيين منذ ما قبل نكبة عام 1948 وأن الشيء نفسه ينطبق على رؤساء الولايات المتحدة.
وأدرك نتانياهو أيضاً أن توقيت القرار مهم؛ لأنه يضع صخرة كبيرة أمام مرحلة ترامب الذي يحس الآن بثقل وحرج كبيرين جراء اضطراره المحتمل لتأييد إسرائيل علناً في قضية الاستيطان وفي قضية نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس بعد توحيد قسميها الشرقي والغربي في عاصمة أبدية واحدة في الدولة العبرية ورغم «شرعنة الكنيست البؤر الاستيطانية وهي العبارة التي تطلق على نقاط البناء غير المرخص لها رسمياً، فإن الشارع الإسرائيلي المعبأ بكراهية العرب تلقى بكثير من القلق والخوف قرار مجلس الأمن الذي يجرم الاستيطان ويحرمه والذي جاء بعد أسابيع من إنكار اليونسكو أي علاقة لإسرائيل بالمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس.
المجتمع الإسرائيلي مرعوب
هذا الشعور هو السائد في المجتمعات الإسرائيلية خاصة أنه يعطي دفعه معنوية لنشطاء مقاطعة إسرائيل ومعاقبتها وسحب الاستثمارات منها في إطار ما يعرف بحركة «بي دي اس»، كما سيشجع أصوات السلام في الولايات المتحدة وأوروبا لعزل إسرائيل الباغية والمتعجرفة والخائفة والمرتكزة على العدوان والاغتصاب والفصل العنصري مما يقودها إلى اعتماد نموذج الابرتايد الذي انتهجته جنوب إفريقيا عشرات السنين قبل أن يحررها مانديلا، وما يزيد من قتامة العيش في المستوطنات أن القرار سيحفز غالبية دول العالم بما فيها أصدقاء لإسرائيل وقف التبادل التجاري مع المستوطنات؛ حيث يفرق القانون بين ما تنتجه إسرائيل وما تنتجه المستوطنات.
ترامب و«1.6» مليار مسلم
وفي الوقت الذي تتركز فيه الأنظار على ترامب الذي يتقلد منصبه ويحلف اليمين في 20 الجاري فإن الرجل سيجد صعوبة بالغه وإحراجاً مضاعفاً في تبني قرار بنقل السفارة الأميركية إلى القدس وسيعتبره 1.6 مليار مسلم عدواً لهم جميعاً بكل ألوان طيفهم السياسي المعتدل والمنفتح والمتطرف على السواء.
على ترامب أن يعي أن إسرائيل تضعه على سكة صعبة يستحيل إتمامها إلى النهاية، وأن إقدامه على مباركة الاستيطان ونقل السفارة سيزيد من أعدائه في المجتمعات الإسلامية مما سيعقد حتماً المشهد الدولي في القارات الخمس.
قائمة الجزارين
وفيما ننتظر ما سيقدم عليه ترامب من قرارات بعد العشرين من يناير فإن القرار2334 قد ينضم إلى بقية القرارات المؤيدة لفلسطين التي أدرجت في أرشيفات الأمم المتحدة، إلا إذا فهمه أعداء إسرائيل جيداً ودرسوه وفسروا وحللوا عناصره الجديدة واستثمروه على الفور لتحويله إلى برنامج نضالي واقعي هدفه إثبات عدم شرعية الاستيطان وعدم قانونيته والتوسع في مشروع المقاطعة الدولية لإسرائيل والسعي لعزل إسرائيل باعتبارها دولة إبادة جماعية ومؤسسة مارقة مطلوب محاكمة الأحياء من مجرمي الحرب فيها أمام محكمة الجنايات في لاهاي. فبماذا يختلف نتانياهو وبنيت ويعلون وشاكيت وليبرمان عن ميلوزوفيتش جزار صربيا ورفعت الأسد جزار مدينة حماه، وعشرات مجرمي الحرب في دارفور ورواندا ويوغسلافيا السابقة وسوريا الحالية.. والقائمة تطول؟!
اجتهدوا وسترون عصابات الدولة الصهيونية في أقفاص محكمة الجنايات مهما بدا ذلك صعباً الآن. أما السلطة الفلسطينية فعليها أن تتعاون لتحقيق هذا النصر فلا شيء مستحيل مع قوة الإرادة.
copy short url   نسخ
12/01/2017
802