+ A
A -
- سمر الأشقر
صداع خفيف غيّر مسار يومي، وبدلاَ من الذهاب إلى البحر احتجزني الألم الطفيف بين جدران بيتي، ووجدت نفسي أتساءل هل يقلّص الألم مساحة الكون؟ إذن لماذا أشعر بكل هذا الضيق؟ أدرت المذياع وقلّبت بين المحطات الإذاعية حتى انسابت موسيقى أعرفها جيداً وتحفظها روحي لكريغ آرمسترونغ بعنوان PIANO WORKS THE FILM THE.
جعلتني هذه الموسيقى أقفز من سريري بخفة فراشة لم تمسّها نار اليأس بعد لتحترق، أقدامي لا تلامس الأرض لكنني أتحرك بحرية، أشعر بتباعد ساقيّ في الهواء وبقدرتهما على التجوال بي في أنحاء البيت لأفتح نافذة مطلة على حديقة صغيرة لم يغادرها الياسمين منذ زرعه أبي بيده البيضاء قبل ثمانية عشرة عاما ليغطي سور الحديقة ويتدلى بدلال خارج السور ملامساً الأرض التي لم تعد تطأها قدميه منذ رحيله إلى عالم فيه راحة أبدية لروحه الطاهرة، لم يتبق لي منها إلا عبق الياسمين يغمرنا بعطره كلما مرت نسمة أو هبّت ريح وجل ما أخشاه أن أفقد صلتي بتلك الرائحة إن اضطرتني الظروف يوما إلى ترك البيت والرحيل لأي سبب.
عاصفة آرمسترونغ، المعزوفة الثانية في الوصلة الموسيقية لم تمر لتقتلعني من حلمي فحسب بل هبت لتقتلعني من جذوري، والصداع لم يكن خفيفاَ كما زعمت، المحزن في سيناريو الحياة بعيداَ عن الموسيقى والأحلام والشعر بأن العواصف حين تهب، تهب فجأة، وتهب في لحظة مفصلية، أي لحظة غير متوقعة لم نستعد لقدومها، تلتف حولنا مثل حزام ناسف وفي غفلة منا تنفجر.
الهروب في معزوفة آرمسترونغ الثالثة ليس هروباَ مألوفاً من خوف أياً كانت أسبابه أو من جرم أو جوع أو حب أو حرب، بل هو هروب ملحميّ، هروب من كل شيء مثل صلاة أخيرة يلفظ فيها المرء كل ما عاشه واختبره في الحياة ليرحل في سلام. والهروب هنا يحمل هوية جديدة ودوافع جديدة قد تقود المرء إلى اكتشاف مواطن الجمال الحقيقي الذي تحج إليه الأرواح المتعبة.
أما الحب لدى أرمسترونغ هو الحب الذي لا تقوى الموسيقى وحدها على تجسيده لذا استعان بأداة التعريف والكلمات المغناة لإيصال المعنى الخفي الذي يقصده بخلاف سوناتاته السابقة، وأول وصف لهذا الحب اتسم بالغرابة، فالحب شعور غريب يشبه كائن أسطوري يظهر في ضوء الشمس ويتلاشى لحظة غروبها، ليوقعنا في الحب من جديد في اليوم التالي وهكذا، ومهما تمسكت يد الأحبة بنا لتمنعنا من السقوط والتلاشي، فان ذلك لا يغير شيء من غرابة ما نحسه، فنحن نتمرن للإبقاء على أنفسنا في دائرة الحب مهما ضاقت أو اتسعت، غير موقنين أن الحب لا يكترث بما نشعر به أو مدى اهتمامنا بأمره فكل عاطفة نحسها في النهاية لا تعني شيئاً إن لم يكن كل ما نحسّه من حب لأجل الحب فقط وليس إرضاءا للنفس أو إرضاءاَ للحبيب، وهنا تكمن غرابة الحب في كونه منذور لذاته لا للذّاته، ويفقد قيمته ومعناه إن لم يتكرر ويتجدد ويتواصل في أعماقنا كالايمان والأمل. وفي هذا المعنى تندرج أشياء كثيرة لا ننتبه إليها إلا بعد فوات الوقت أو ربما بعد فقدانها.
ولأن الحياة قصيرة، فلنحب الحياة لأجل الحياة، ولنعش بكرامة لنستحقها بجدارة قبل أن تضيق بنا ونضيق بها، وأن نتذكر دائماَ أن أرض الله واسعة كما قال الإمام الشافعي رحمه الله في هذين البيتين الخالدين:-
إذا ما ضاق صدرك من بلادٍ.. تَرَحلْ طالباً أرضاً سواها
فنفسك فز بها إن خفت ضيما.. وخل الدار تنعى من بناها
فإنــــــكَ واجــــــدٌ أرضًـا بأرضٍ.. ونفســكَ لا تجدْ نفسًا سواهَـا
هذه الأبيات تلخص أوضاعاً كثيرة ظالمة ومحزنة ومؤسفة ومخزية ومجحفة ومعقدة نعيشها الآن ونختبرها على امتداد هذا الوطن، وبحكمة بالغة وضع لنا الإمام الشافعي منهجاً سليماَ وواضحاَ يضمن لنا العيش بكرامة بعد أن أوضح باختصار المشكلة وحلها والعلة والدواء، ومن أراد الفوز بنفسه وبعزته وبكرامته يسترشد بها.
أمنياتي في هذا العام أن تعود العزة والكرامة والمحبة لكافة أرجاء هذا الوطن وأن يحل الأمن والسلام والرخاء وأن يحفظنا الله من كل حقد وظلم وطائفية وعدوان وكل عام وأنتم بخير.
copy short url   نسخ
04/01/2017
2074