+ A
A -
بقلم- باسم توفيق
في خلاصة تجربة الفن المميز نجد ان اهم نصيحة للفنان الذي يخطو على عتبة البدايات هو أن يكون لك أشخاصك الذين يشكلون موضوعاتك الفنية وأن يكون لك أيضا رؤيتك الخاصة لهم، فعينك هي المثمن الوحيد للشخصية كما هي أيضا المثمن الوحيد للمشهد الذي تريد أن تنجزه فوق لوحتك، ففن التصوير الناجح هو أن تذهب بعينك فيما وراء المشهد البصري بعيدا عن النقل الدقيق، بل تتعمق أكثر لتنقل للمتلقي رؤى باطنية هي في الواقع فلسفة تشكيلية فطرية دون الدخول في معميات غير صحيحة، وهذا المذهب الطبيعي في الفن التزمت به بعض المدارس الفنية بشكل أو بآخر. لكن في الحقيقة هناك مدرسة من مدارس الفن التزمت به بشكل كبير وأصبحت أهم المدارس الرائدة في تطبيق مذهب العين والرؤى الخاصة للفنان، والتي تقدم شيئا ممتلئا بالمشاعر والأحاسيس بعيدا عن النقل الأصم، وهي المدرسة الأسكتلندية وخصوصا في النصف الأول من القرن العشرين وهي بشكل أو بآخر أحد فروع الفن الإنجليزي عامة وعلى ما يبدو أن البؤس الذي عانته القرى الإنجليزية والساحل الأسكتلندي وبعض أجزاء أيرلندا قد أجج قرائح الفنانين في كل المجالات فنجد هذا البؤس الذي دفع روائي كبير مثل فرانك ماكورت أن يكتب رائعته - رماد أنجيلا- والتي حاز بها جائزة بولتيزار كما دفع الفنان التشكيلي الكبير ماكنزي ثورب ان يتقصر كل فنه على أطفال العمال في القرى الانجليزية الصغيرة واطفال الشوارع وهذا بالتحديد ما فعلته من قبله بخمسين عاما فنانة عبقرية والتي يطلق عليها معظم النقاد سيدة الرسم الأسكتلندي وهي فنانتنا اليوم الفنانة التشكيلية الكبيرة جوان ايردلي والتي والحق يقال لم تأخذ حقها من الشهرة والمجد ما أخذه من هم أقل منها في الحرفة وفلسفة الرؤية، لكن على أية حال فإن المتاحف الكبيرة في العالم الآن تتسابق بشكل واضح على اقتناء أعمالها بحيث دخل متحف جوجينهايم للفن الحديث في نيويورك في مفاوضات مع عدة مصادر لاقتناء مجموعة من أعمالها ولقد بدا قبلة متحف الفن الوطني بأسكتلندا في اقتناء أعمال كثيرة لها وهو الذي يمتلك تقريبا 60 بالمائة من اعمالها بل وكل المعارض الاستعادية التي تتناول أعمالها تتم عن طريقه، من هنا أعلنت أيضا ثوسبي للفنون عن امتلاكها لبعض أعمالها وتؤكد ان أعمال جوان ايردلي قد تضاعفت قيمتها منذ 2008 بعد ان بيعت لوحتها الشهيرة شحاذون في ساحة سان مارك والتي رسمتها أثناء زيارتها لفينيسيا عام 1949 بمبلغ 180 ألف جنيه استرليني.
تعتبر جوان ايردلي من أهم علامات الفن في القرن العشرين وخصوصا في المدرسة الأسكتلندية والتي كانت توصف دائما انها في عباءة الفن الانجليزي لكن أيردلي من الفنانين الذين أعطوا خصوصية ونكهة خاصة لمدرسة الفن الأسكتلندي التي توصف بأنها ركزت على الجانب الإنساني بشكل كبير ونهل من هذه المدرسة فيما بعد فنانون عظماء سواء من انجلترا أو من خارجها.
في البداية علينا ان نسلم ان البساطة التي عالجت بها جوان ايردلي موضوعاتها هي تلك النقطة التي يجب ان ننطلق منها فعلى الرغم من ان ايردلي كانت دارسة متعمقة للفن وتقنياته، بل ودرست على ايدي أساتذة كبار مثل هيو آدم كراوفورد والذي أثر في خطواتها الأولى إلا أن ذلك لم يمنع ألوان ايردلي وريشاتها من ان تنصاع للبساطة والعمق في آن واحد حتى يتسنى للمتلقي اكتشاف هذه الشخوص التي توصف أيضا بالبساطة ومن ثم من يطالع اعمال جوان ايردلي للوهلة الأولى قد يتملكه إحساس بأنه يطالع أعمال فتاة صغيرة في المرحلة الابتدائية أو الاعدادية، هذا بالتحديد ما يجعلنا ننجذب اكثر لأعمال ايردلي والتي آلت على نفسها مثل باقي المدرسة الأسكتلندية والأيرلندية في الفن أن تورد بعضا من بؤس الحياة في القرى والأحياء البسيطة، والتي قد تكون جانبا من حياتها الشخصية أيضا، كما سوف نعرف فيما بعد، لذا نجد ان معظم موضوعات ايردلي هي وجوه أطفال الشوارع الفقراء والشحاذين والأطفال الفقراء المنهكين بعد فترات لعبهم في الشوارع لذا فإن معظم تقنيات التناول في أعمال ايردلي تنصب على تطوير الوجه أو البورترية عامة وهناك نوعان من البورترية عند جوان أيردلي اولهما هو البورترية السميك أي المستخدم فيه ألوان زيتية أو أكرليك وتتبنى فيه ايردلي تقنية اتجاهات الريشة مع الألوان السميكة من خلال فلسفة لونية تستخدم فيها الألوان القاتمة والتي تتماشى مع تعبيرات الوجه الطفولي الذي ينضح بالحاجة والفقر وربما الحزن أيضا حتى الألوان الفاتحة فهي باردة وثقيلة كما أن هناك تشريحا دراميا تستخدمه دائما ايردلي في تصوير وجوه اطفال البورتريهات السميكة حيث العين ساهمة حزينة وفي وضع نظر لشيء غير موجود ودائما ذات نظرة متجهة لأسفل كذلك الوجه ليس به أي نوع من انواع الابتسام أي في حالة تراجيدية وهذا بالتحديد إحدى نقاط تميز ايردلي ويحسب لها لا عليها.
النوع الثاني من البورتريه وهو في الغالب إما لأكثر من شخص أو حركي أي فيها موضوع حركي ولو بشكل بسيط هذا النوع هو الذي نستطيع تسميته بالبورترية الخفيف أو الأقل سمكا فالألوان المستخدمه فيه اقل خفة مثل الباستيل والمائيات وغيرها من الألوان، ونلاحظ ايضا أن الألوان نفسها لم تستخدم بكثافة كبيرة لملء الفراغات كما في النوع الأول من البورتريه أي السميك والذي تتزاحم فيه الألوان في سطوع واضح لحركات الفرشاة، وألوان النوع الثاني أقل قتامة من النوع الأول وبها بعض البهجة فمعظمها فواتح مشتقات الأحمر والأصفر والأزرق الفاتح وفيها حركة وبعض النشاط فنجد مثلا طفلة تحمل شقيقها الأصغر النائم أو طفل نائم وبخصوص موديل الطفل النائم نجد تأثر جوان ايردلي بوضع الطفل النائم عند الفنان النمساوي فريدريك أميرلينج والتي تكررت كثيرا في أعمالها التي تتناول نفس الموضوع والنوعية الثانية من بورتريهات ايردلي هي تلك النوعية التي توحي بأن ايردلي أستعارت بساطة الأطفال الصغار في الرسم حيث هم الموضوع الأساسي لهذه النوعية من بورتريهات ايردلي.
أما الموضوع الأخر الذي تناولته جوان ايردلي هو المناظر الخارجية لرصد الطبيعة وخصوصا الحقول في القرى المجاورة لقرية كاترلين في جلاسجو والتي قضت معظم فترات نشاطها الفني فيها وهي إحدى قرى الصيد الشهيرة في جلاسجو، والحقيقة أن لوحات ايردلي من هذا النوع أثارت جدلا كبيرا فهي تتحول من قمة البساطة والواقعية في بورتريهاتها المعروفة لمذهب جديد بسيط ومعقد في ذات الوقت فهي تسير بخطى عريضة نحو الانطباعية نحو التجريد والحداثة وهناك رأي نكاد نميل له ونصدقه وهو أن ايردلي قد سبقت فناني مابعد الحداثة في تصور مشهد البحر والأمواج والساحل وهذا الرأي تؤيده إحدى المتخصصات في فن ايردلي وهي الأستاذه كورديليا أوليفر حيث ترى أن ايردلي قد تعدت المشهد المرئي لتقنيات اوسع حيث عاينت البحر في فصول عدة وفي ظروف ضوئية مختلفة، مما جعلها تخرج برؤى تجريدية للمشهد الطبيعي بعد ان كانت تراه تأثيريا بشكل كلي في مخططاتها واسكتشاتها الأولية.
والحقيقة اننا نرى ان فنانة مثل جوان ايردلي لم تأخذ من الشهره حقها على الرغم من ان الكثيرين والأقل منها موهبة كانوا قد وضعهم الإعلام والبروباجندا في طليعة فناني القرن العشرين ومنهم على سبيل المثال لا الحصر لوسيان فرويد الذي والحق يقال كان قد نقل كل تقنيات المدرسة الروسية ومدرسة البلقان المجهولة لدى أوروبا نقلها لإنجلترا فلاقى إطراء كبيرا في غير محله، فنحن نرى ان فرويد لا يزيد كثيرا عن ما نقل عنهم وتأثر بهم دون أن تدفعه الأمانة لذكر ذلك فالمقارنة بينه وبين ناثان ألتمان مثلا ترجح احتيال فرويد على تقنيات مجهولين مثل ألتمان ومن ثم يظل الوجه الطفولي المطل ببراءته من بؤس الشارع هو الأكثر قوة من وجوه فرويد اللامعة، لكن الحق يقال إن النقاد الانجليز كانوا ومازلوا يضمرون بعض العنصرية في اللاوعي للفنانين الأيرلنديين والاسكتلنديين ويفضلون عليهم الفنانين الانجليز.
ولدت جوان ايردلي لأب انجليزي وام اسكتلندية في عام 1921 في ورهام سوسيكس بإنجلترا وتبدأ أولى قصص الدراما في حياتها حينما كانت صغيرة لم تتعد الأربع سنوات فكان والدها مصابا بالجنون نتيجة لتعرضه للغاز في الحرب العالمية الأولى ولم يكن يتفاعل مع ابنتيه أي جوان وأختها باتريشا حتى أنهى حياته بيده حينما كانت جوان في سن التاسعة فرحلت والدتها بهم إلى بلاكهيث بلندن وتولت خالتهم الانفاق على تعليمهم وبعد اكتشاف موهبة جوان الفنية التحقت بكلية جولدسميث لمدة موسم واحد ثم عادت الأم بهم إلى جلاسجو وفي عام 1940 التحقت بكلية جلاسجو للفنون ودرست على يد هيو ادم كروافورد وتأثرت بالمدرسة الأسكتلندية وحصلت على الدبلوما عام 1943 كما حصلت على جائزة سير جيمس جوثري وعملت بالتدريس فترة قصيرة ثم أكملت دراستها في هوسبيتالفيلد هاوس ومن ثم رحلت في منحة لمدة عام لإيطاليا وفرنسا حيث عاينت على الطبيعة اعمال عظماء الرينيسانس وتأثرت كثيرا بمزاتشيو وبيرو ديلا فرانشيسكا وبعد ان عادت من رحلتها أستاجرت أستوديو صغير في جلاسجو وبدأت برسم مجموعتها الشهيرة عن أطفال الشوارع والفقراء وفي بدايات 1950 دعتها إحدى صديقاتها إلى قرية كاترلين وأعجبت بها أيما اعجاب فكانت تقضي معظم اوقات العام بكوخ بدائي بها وتتنقل حول القرية لرسم المناظر الخارجية لوحاتها الشهيرة عن البحر في كل أحواله وفي كل الفصول.
ذاع صيت جوان ايردلي وأسست جماعة كاترلين أو مدرسة كاترلين والتي ضمت فنانين كبارا مثل أجنس نيل وليل نلسون وانتخبت عضوة بأكاديمية الفن الأسكتلندية بالإجماع، ثم رحلت لفينيسيا في اجازه نقاهة من مرض النكاف وهناك أنجزت عملها الشهير عن شحاذي فينيسيا. أصيبت أيردلي بسرطان الثدي ورفضت ان تأخذ العلاج الذي كان صعبا في ذاك الوقت ووصل المرض للمخ وماتت عام 1963 عن عمر 42 عاما، وحرقت ووضع رمادها في مياه كاترلين كما أوصت.
copy short url   نسخ
30/05/2016
3231