+ A
A -
تنتهي مراسم العزاء، ولا تتوقف ألسنتنا عن الدعاء، بأن يرحم الله فقيد وطننا المعطاء، المغفور له صاحب السمو «الأمير الأب» الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، الذي كان أميراً وقائداً ورمزاً من رموز قطر، نقش لدولتنا اسما لها بعد استقلالها، وصنع لها كيانا حراً بعد تحريرها من الاستعمار، ووضع لها مكانا عاليا وسط أشقائها، مع انطلاق ورشة الإعمار.
.. ولأنه كان واحداً من الرجال الذين لا يتسع المجال لشرح مكانتهم، وتعدد مآثرهم، وذكر مناقبهم، تصبح المشاعر بعد رحيلهم أعمق عندما تتم ترجمتها في كلمات، وتصبح الانطباعات أصدق عندما يتم التعبير عنها في مفردات، وتصبح الكتابة عنهم أوثق عندما يتم توثيقها في مقالات، بعيداً عن الشكليات والرسميات.
.. ولأن ما قدمه فقيد الوطن لوطنه راسخ في القلب، وهو أكبر من تحديده في لقب.
.. ولأنه «الأمير الأب»
فهذا يعني أنه «أبو القطريين»، مما يعني أنه «أبونا العود» جميعاً،.. ولهذا من حقي أن أترحم على روحه الطاهرة وأقول:
الله يرحمك يا «يبه» خليفة.
.. ومن حقي أيضاً أن أقول عن فقيد قطر، اللهم اغفر لـ «أبونا العود»، وارحمه وعافه، واعف عنه وأكرم نُزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
اللهم جازه بالحسنات إحساناً.
.. وبالسيئات عفواً وغفراناً.
.. وعندما أتوجه مثل غيري بهذا الدعاء، وأقول اللهم أنزل على قبره الضياء، فهذا جزء يسير من رد الجزاء، ونوع من أنــواع الوفـــاء، لـ «أبونا العود» صاحب العطاء.
.. وما من شك في أن خير العزاء يكمن في عزائنا بمن استخلفه من أبنائه، وقاد مسيرة الوطن من بعده، ثم سلم الأمانة لمن يستحقها من احفاده.
لقد رحل «الأمير الأب» بعد أن بنى لوطنه، خلال سنوات حكمه، جيلاً وطنياً، قادراً على تحمل المسؤولية القيادية، وكان من مخرجاته جيل صاحب السمو «الأمير الوالد» الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني ـ حفظه الله ـ، الذي صنع بدوره جيلاً قطرياً شاباً يقود قطر، ويملك مقومات العصر، ويعرف كيف يحقق النصر، بقيادة حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى.
.. وما من شك في أن الفقيد الكبير لم يكن مجرد أمير راحل، نتغنى بإنجازاته بعد رحيله، ولكنه الأب الذي ربى، والمربي الذي علمنا حب الوطن، والمُعلم الذي غرس في داخلنا حب قطر.
.. ولهذا سيظل حب «أبونا العود» الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني ـ طيب الله ثراه ـ متدفقاً في صدورناً، وسيبقى نابضاً في صميم قلوبنا، غزيراً كالبحر الذي يداعب شواطئنا بأمواج الخليج العربي، وسيبقى كالبر الذي يجاورنا برمال البيئة القطرية.
.. وسنظل نفخر في قطر بمرحلة تاريخية مهمة، أسسها المغفور له بعد الاستقلال، وبناها بعزيمة الرجال.
.. ولأن ما بناه ذلك الباني في وطنه لم يكن بالشيء السهل، ولا الهين الذي يهون علينا، فإن سيرته الطيبة ستبقى مثل الأشياء الثمينة التي لا تطالها أغبرة الزمان، ولا يطولها النسيان، بل تبقى راسخة في الوجدان.
.. ومثلما نتـــرحم على فقيـــــد الــــوطــن «أبـــونا العود»، فإن الدعوة موصولة بالرحمة لرفاق دربه، من أعضاء فريقه الحكومي الأول، الذين توفاهم الله، وأذكر منهم بكل مشاعر الفخر، على سبيل المثال لا الحصر، المغفور له الشيخ جاسم بن حمد آل ثاني «وزير المعارف»، الذي يوصف بأنه «أبو التعليم»، حيث عرفنا العلــــم مـــــن خلاله، كمـــا يوصـــف بأنـــــه «أبو الرياضة»، حيث شهدت الحركة الرياضية نشأتها على يده.
.. والمغفور له الشيخ سحيم بن حمد آل ثاني وزير الخارجية المحنّك، الذي صنع لدولتنا بعد استقلالها مكانة دولية، برؤيته الدبلوماسية، ونجح في إدخالها في المحافل العالمية.
.. والمغفور له الشيخ ناصر بن خالد آل ثاني، أول وزير رسمي لـ«الاقتصاد والتجارة» في قطر، الذي عمل جاهداً على تأسيس الوزارة المذكورة، وبناء هيكلها الإداري والتنظيمي.
.. والمغفور له الوجيه عبدالعزيز بن خالد الغانم، أول رئيس لـ «مجلس الشورى»، صاحب الرأي السديد، والفكر الرشيد، والمشورة المخلصة.
.. والمغفور له الوجيه خالد بن عبدالله العطية، الذي تولى تأسيس وزارة الأشغال العامة، وتم على يديه بناء العديد من المرافق المهمة، وإنجاز العديد من المشاريع الحكومية، وتطوير البنية التحتية.
.. والمغفور له الوجيه محمد بن عبدالله العطية مؤسس وقائد الجيش القطري الحديث بعد الاستقلال، وصاحب الشخصية القيادية، الذي حمل لقبه العسكري «الزعيم»، وأصبح نائب القائد العام لقواتنا المسلحة.
.. وتقديراً لمجهوداته الوطنية، وجهوده العسكرية، صدر قرار أميري في التاسع من سبتمبر عام 2014 بانشاء كلية جوية تحمل اسمه.
.. والدعاء موصول بطول العمر للباقين على قيد الحياة من وزراء قطر بعد استقلالها، أذكر منهم سعادة الشيخ محمد بن حمد آل ثاني وزير التربية والتعليم الأسبق، أطال الله في عمره، ومتعه بالصحة، وسعادة الشيخ خالد بن حمد آل ثاني وزير الداخلية- حفظه الله- الذي ساهم بشخصيته القوية، في ترسيخ الأمن والأمان في قطر، في مرحلة دقيقة وحساسة من تاريخ المنطقة.
ولا أنسى التوقف عند عيسى بن غانم الكواري ،الذي رافق الراحل الكبير على مدى اكثــــر من 4 عقود، مع توالي الكثير من العهود.
.. لقد ارتبط استقلال البلاد بشخص صاحب السمو «الأمير الأب»، فكان هو والقرار القطري المستقل وجهان لشيء واحد، اسمه قطر.
.. ولهذا فإن سنوات حكمه العامرة بالعطاء بعد استقلال الوطن، تجبر القلم على الانحناء إجلالاً، وتكسب الكلمات هيبة، وتعطي العبارات هبّة، لأنه ـ رحمه الله ـ كان تاريخاً لقطر المستقلة، ورمزاً لاستقلالها.
.. لقد رحل «أبو الاستقلال القطري» ومازالت شخصيته حاضرة بيننا، كلما ذهبنا لتلقي العلاج في «مستشفى حمد» الذي قام بتأسيسه.
.. وكلما حضرنا مباراة في «استاد خليفة» الدولي الذي قام بإنشائه عام 1976، ليحتضن مباريات دورة الخليج العربي الرابعة لكرة القدم.
.. وكلما مشينا على «الرستة» في شوارع مدينتي خليفة الشمالية والجنوبية اللتين بناهما لأبناء شعبه.
.. ولو نظرنا حولنا، وتأملنا ما يحيط بنا، سنلمس الكثير من الأشياء المهمة، التي حتما كان للفقيد الكبير الدور الأكبر في إقامتها في قطر.
.. وليس جديداً عندما أقول مجدداً، إنه هو الذي أمر ببناء «المساكن الشعبية» التي عاش آباؤنا، ويعيشون تحت أسقفها، والتي وفّرت العيش الكريم لـ «شيابنا» و«عيايزناً».
.. وهو الذي وجه منذ عقود لمد الكثير من خطوط الكهرباء شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، التي تُشغل حاليا من بين ما تقوم بتشغيله أجهزة «الحواسيب»، والهواتف الذكية، بكل تطبيقاتها المتعددة، التي لا يمكن لأحد أن يستغني عنها، حيث لا يمكن الاستغناء عن شحن الهاتف بالتيار الكهربائي، وبالتالي تشغيل تطبيقات «تويتر» و«فيسبوك» و«انستجرام»، و«سكايب» وغيرها من وسائل التواصل مع الأحباب.
.. وهو الذي بنى لنا مدارس كثيرة تعلمنا فيها، وعلمنا أبناءنا ما تعلمناه منها، وفي مقدمة تلك العلوم التي تعلمناها في فصول التعليم، أن نحب الوطن، وبالتالي أن نحب قطر.
.. وهو الذي أقام مستشفيات غير مستشفى «الرميلة»، وغير مستشفى الولادة الوحيد الأوحــــد،الـــــذي كان مشهــوراً باسم «مستشفى حمدة»، حيث شهد عهده افتتاح مستشفى الولادة الجديد بكل مرافقه العصرية، التي شهدت صرخات الميلاد الأولى لأبناء هذا «الجيل الألكتروني».
.. وكل هذه الانجازات وغيرها تحققت وفق رؤيته، وتم تدشينها في عهده، وتحت مظلته، ورايته الوطنية.
فكيف لا نحبه؟
.. وما من شك في أن ما تحققه الدولة حاليا من نجاحات هو امتداد لمسيرة وطنية طويلة، كان لـ«أبونا العود» خليفة دور كبير فيها، مثل حكام قطر الذين سبقوه، وأمراء البلاد الذين تولوا الحكم من بعده.
.. ويكفي أنه ترك لنا رجالا قادوا، ويقودون مسيرتنا الوطنية نحو المزيد من التقدم، والكثير من التفوق والعديد من التألق، وفي مقدمتهم صاحب السمو «الأمير الوالد» الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، ومن بعده حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، وبهذا التسلسل في الأجيال الحاكمة، تتحقق طموحاتنا الحالمة.
.. وبعيداً عن الأحلام، لا أزعم أنني أعرف عن قرب الراحل الكبير، ولكنني تشرفت بمقابلته عدة مرات، عندما كان يحرص على لقاء «رؤساء التحرير» خلال مشاركاته في القمم الإسلامية، والعربية والخليجية والفعاليات الدولية، تقديراً من سموه لدور الصحافة في تنوير المجتمع، بحضور مؤسس الصحافة القطرية، وعميدها الراحل عبدالله حسين نعمة ـ طيب الله ثراه ـ
.. وكنت أشعر وقتها أننا صغار أمام شخصيته «الكاريزمية»، لكنه كلما أسهب في الحديث بحماس عن قطر نشعر بأنفسنا نكبر ونكبر معه ولا نصغر.
.. ولكل هذا، فإن مناقب «الأمير الأب» لا يمكن إحصاؤها في هذا المقال، ومآثر «أبونا العود» لا يمكن حصرها في هذا المقام، لأنها إنجازات وطن، ونجاحات دولة نفاخر بها بين الدول.
.. وهي نجاحات شعب يتباهى بقيمه، ويتفاخر بقادته بين الشعوب ولا ينساهم.
.. ولأننا لا ننسى، فلا يمكن نسيان أن «الأمير الأب» ساهم في رفعة الشعب، والارتقاء بالقطريين، وكانت علاقته مع أبناء شعبه قائمة على قيم الأبوة، والعناية بالمواطنين، ورعاية المقيمين.
.. ولهذا كان الراحل الكبير أميراً تختصر صفات الإمارة في أبوته، وكان أباً تختزل مواصفات الأبوة في شخصيته الأبوية، التي جعلته قريباً مقرباً إلى قلوب الجميع.
.. وعلى هذا الأساس، أستطيع القول إن قطر فقدت «أباً» لم يدخر وسعاً، في سبيل تحقيق العيش الكريم لأبناء شعبه.
.. ولعل ما يميز فقيد الوطن أنه لم يكن أميراً فحسب، بل كان بمثابة «الأب» لأهل قطر جميعاً بلا استثناء، سواء كانوا مواطنين أو مقيمين، والدليل على ذلك مقولته الشهيرة، التي تعكس كرم أخلاقه:
«أهلاً بالجميع في دوحة الجميع».
فهذه المقولة الترحيبية في داخلها انعكاس لشخصيته الأبوية، بكل صفاتها وخصائصها الإنسانية، وكل خصالها «الحاتمية».
.. ومن خلال تلك المقولة أرسى الراحل الكبير مبادئ عظيمة، وأعلى قيماً نبيلة، كلها تمحورت وتتمحور ولا تتحور حول الإنسان، مهما كان شكله أو لونه، و، مهما كانت هويته أو جنسيته، سواء كان قطرياً أو عربياً أو أجنبياً.
.. وما زالـــت تلك المقولــــة الأميريـــة عن «دوحة الجميع» تشير إلى قطر، وتؤشر إلى أخلاق قطر، وصفات قطر، وأهل قطر الكرام، بكل مكارم أخلاقهم.
.. لقد أصبحت تلك المقولة القيادية مثل «الاسطــــــرلاب» العــــــربي الــــذي يحـــــدد المواقع الجغرافية طولاً وعرضاً، أو «البوصلة» التي تدل التائهين نحو عاصمتها، أو الباحثين عن بر الأمان، فتدلهم إلى «دوحتها».
.. وما من شك في أن تلك المقولة تعكس في مضمونها ومضامينها «كرم الضيافة القطرية»، لكل ضيوف قطر، وكل زوارها وكل سكانها، وكل المسكونين بحبها، وكل الذين يسكنون بها، وكل المقيمين في مساكنها، وكل الساكنين فوق ترابها، وكل العاشقين لسكونها، الذين يتنفسون عبق هوائها، فيشعرون بقيمة السكن فيها، لأنها تضفي السكينة على ساكنيها.
.. ولعل من ينظر إلى الأفق القطري، ويمد بصره إلى أبعد نقطة يستطيع رؤيتها على الساحة القطرية، يشهد على صدق هذه المقولة، حيث يتواجـــد في قطــــر جميـــع أشكال الطيف الإنساني، بلا استثناء أو إلغاء أو إقصاء لأي أحد.
فالبلاد تفتح أبوابها لكل العباد، والتأشيرة هي «دوحة الجميع»، بشرط احترام سيادة الدولة، وسيدها، وسادتها، وقوانينها السائدة.
كما تفتح قطر ذراعيها لاستقبال جميع الوافدين، وترحب بكل أشقائنا العرب القادمين إلى «دوحة الجميع»، ليتوقفوا في «ســــوق واقـــف»، الــذي يقــف شامخــــــاً في قلــب الدوحة، باعتباره واحداً من أهم معالمها.
.. ولهذا كله ستظل محبة صاحب مقولة «دوحة الجميع» ساكنة في قلوب الجميع، مما يدفعني أن أقول بلسان الجميع.
تغمد الله «أبـــونا العود» صاحب السمو «الأمير الأب» الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جناته.
copy short url   نسخ
27/10/2016
3346