+ A
A -
لا شك أن «المكان» هو العنصر الرئيسي في العمل الأدبي السردي سواء كان قصصيا أو روائيا، لا بل أن البعض يعتبره الهيكل الذي يحمل باقي عناصر السرد ومن خلاله يقدم الكاتب للقارئ باقي عناصر العمل كالزمن والأحداث والشخوص الرئيسية والثانوية وغيرها من العناصر.
إلا أن تقديم المكان في الرواية والقصة يقدم بصورتين: فإما أن يكون حقيقيا بكافة تفاصيله ويجسد تجربة معاشه ما يربط السرد بالواقع طيلة أحداث العمل، وإما أن يكون متخيلا بالكامل ما يمنح حرية أكبر للكاتب ويدفعه للتحرر من معطيات واقعية عديدة.
عن مزايا كل من المكان الحقيقي والآخر المجازي في الأعمال السردية، وما يفضله الكتاب الحاليون، التقت «الوطن» عددا من النقاد والكتاب الأردنيين وكان هذا الاستطلاع.
يقول القاص ناصر الريماوي «حتى يتحول المكان في القصة القصيرة إلى مادة فنية رائعة يفترض بنا المواءمة باقتدار بين تلك الواقعية الحنونة، المؤثرة، وذلك المجاز الرحب المحايد، عند التوظيف؛ بحيث يفترض بالجانب التخيلي أن يكون ملهما وحاضرا، حتى في تحرّي الشفافية المفرطة في النقل لذلك المكان، نحو فضائه القصصي.
ويتابع: «عندها– وهو رأي شخصي- سوف يتسع النص القصصي / الروائي بما يمتلك من دلالات، حتى يقترب من تلك الشمولية المباحة في السرد، بوصفه السائد، أو العنصر الأهم الذي يمكن من خلاله توجيه الوظيفة السردية، متخطيا بذلك حدوده الجغرافية الضيقة، كثانوي في احتضانه للشخوص والوقائع، محلقا بما يمتلك من طاقة عاطفية مؤثرة في المتلقي، ليملأ محتلا فضاء القصة بأكملها، أيضا سيغدو المكان متجاوزا لحالته الفيزيائية الرتيبة، من جمود وصمت أزلي، ليحكي، لينطق، محفزا بهذا تلك النقاط البليدة على أسطح المخيلة، لكل قارئ، كي تشتعل، أو تحلّق وفقا لنوع التفاعل، أو مداه، وهو ما يعزز الغاية في الوصول أو التوجه إلى أكبر شريحة ممكنة، بنجاح، وفقا لتباين ونوع وعي المتلقي أو ثقافته، المتلقي، ذلك الأهم، الذي ينتظر جديدا ما على صعيده النفسي والمزاجي، ويقف على الطرف الآخر من المعادلة الإبداعية..».
فكر وفن
ويشدد أستاذ الأدب العربي في الجامعة الأردنية الناقد د. عماد الضمور على أهمية المكان كعنصر رئيسي في العمل السردي مركزا على الرواية، حيث يقول «يسهم المكان في إقامة دعائم الرواية والحفاظ على تماسك عناصرها اذ يتجاوز ارتباطه ببنية الرواية إلى تشكيل ابعادها الدلالية، وترسيخ هوية الشخوص ومرجعياتها الفكرية مما يجعله يتصل ايضا بعملية التلقي وكشف بنيات الرواية العميقة؛ لذلك فإن الروائيين يتبنون استراتيجية عميقة في اختيار امكنتهم اذ يسهم الوعي المكاني للشخصية الروائية في إنتاج رواية متماسكة، فلمكان الواقعي يختلف عن المكان الفني إذ إن أهمية المكان الواقعي واضحة في مؤسس للشخوص ومرتبط بالزمان ومنبثق من مرجعية الكاتب الفكرية لكنه في النهاية يعجز عن تحقيق اللذة الجمالية التي تتأتى مع المكان الفني.
وهنا فإنه من الضروري التأكيد على أهمية المكان المجازي المنبثق من فنية الرواية فهو مكان يتسم بطبيعته التخييلية التي تختزل حركة الشخوص فضلا عن اتسامه بالخلود لم يتركه من تأثير مدهش في المتلقي ويتيحه للروائي من قدرات عالية على تجاوز محنة الواقع وانكساراته ففي الفن وحده ينشأ تواطؤ ضمني بين الفنان والمتلقي على القبول بإيهامية المادة الفنية وإبهامية أمكنتها.
إن الروائي في أمكنته المجازية أقدر على الخلق والابداع لكنه في النهاية مرهون بالفكرة الروائية التي قد تجعل من المكان الواقعي اكثر تشكلا وانتاجا للمعنى وتعبيرا عن الفكرة الروائية وبخاصة اذا كان الحديث عن تجربة المنفى أو المعتقل أو استدعاء للطفولة، لكن مثل هذه الامكنة المؤسسة للفكرة الروائية لا تلبث ان تنبثق منها أمكنة مجازية تجسد الهروب إلى عالم آخر أفقا ورحابة وأوسع أملأ، لذلك فالمكان المجازي منفصل عن المكان الواقعي اكثر مما هو متصل معه ويقتصر اتصاله على علاقة الإحالة التخييلية التي تثري الرواية وتشكل قيمتها الفكرية وإحالاتها المعرفية، لأن المكان الروائي في الغالب لا يطابق الواقع بل يحاكيه ويقتبس من وهجه ليشكل عالما آخر أكثر حلمية ومخالفة للمكان الواقعي الذي ترتبط ملامحه في أكثر الروايات العربية بالانكسار والهزيمة والبؤس والخذلان».
ويشير د. الضمور إلى تفضيله المكان المتخيل في العمل السردي، حيث يقول «في الحقيقة أفضل المكان المجازي دون القطيعة مع المكان الحقيقي الواقعي فليس الفن متحققا في مطابقة الواقع وهو في الوقت نفسه لا يتحقق بالخيال والأحلام إنه مزيج خلاق ببن الواقع والخيال بلغة أدببة رشيقة وفكرة سامية وروح ملهمة وثابة فالنص يخلق عن طريق الكلمات وتجربة المبدع مكانا خياليا لكنه قد يكون واقعيا في عملية التلقي ومن هنا فالرواية الجديدة تطمح إلى تجاوز فعل القراءة إلى الانتشاء بالسرد وخلق عوالم جديدة قد لا تكون متاحة على الواقع».
غياب المعايير
وترى القاصة حنان بيروتي أن توظيف المكان الذي هو الحاوي للأحداث في العمل السردي أكثر ملاءمة في الرواية منه في القصة القصيرة لمحدودية المساحة مكانيا وزمانيا وإنْ كان ذلك ممكنًا لكنه يحتاج إلى مهارة خاصة ودربة بحسب رأيها.
وتزيد «ليس ثمة معيار ثابت لأهمية وجودة توظيف المكان في السرد سواء جعله مجازيا أو حقيقا،فالمهم الذكاء في التعامل معه من حيث جعله مؤثرا وفاعلا في الأحداث بطريقة تبعد الأمر عن مجرد الوصف الجامد التي تشبه آلة التصوير المحايدة إذ لا بد من رصده بعين القلب وبمنظور الشخصية وحالتها الانفعالية والنفسية في المشهد السردي،فهو يصطبغ بلون الألم أو الفرح وترتسم على جدرانه وبيوته وشوارعه صور الذكريات والتداعيات، بالنسبة لي كقارئة أفضل السرد الذي يحتفي بالمكان ويمتزج وصفه مع الأحداث بحيث يكاد يشكّل شخصية متفردة في العمل الروائي خاصة،ثمة روايات أردنية حفرت تفردها من المكان وبفنية رفيعة على سبيل المثال لا الحصر الروائي جلال برجس وهزاع البراري جعلت القارئ يربط بين الأمكنة التي يعايشها ويعيش فيها وبين ما قرأ بحيث يعلق العمل في وجدانه ويصبح بعدا خامسا له.بالنسبة لي كساردة أقول بصراحة إنّي لم أوظف المكان في أعمالي كما أتمنى إلا في ما ندر،وأحلم بعمل يحتفي بالمكان ويعيد رسمه بريشة الاحساس الذي تعيشه الشخصية».
قيمة الجغرافيا
يوضح الناقد عبد الرحيم جداية أهمية المكان في السرد مستشهدا بروايات عربية وعالمية، حيث يقول «المكان قيمة في الروايات العالمية مثل العطر لزوسكيند وإحدى عشرة دقيقة لباولوكويلو والشيخ والبحر لارنست همنجواي وفي الرواية العربية تظهر الجغرافيا والمكان وارتباطها مع التاريخ عند واسيني الأعرج في رواية البيت الأندلسي وحنا مينة في مصابيح زرقاء ومثلها عند ايزابيل اللندي الكاتبة التشيلية في رواية صورة عتيقة والمكان سيد الرواية عند نجيب محفوظ في الكرنك والثلاثية قصر الشوق وبين القصرين ولا ننسى الجغرافيا بين الاسكندرية والقدس وانطاكية في رحلة هيبا في رواية عزازيل لكن الجغرافية مهملة تماما باستثناء بعض الروايات التي انتصرت للمكان خاصة في عمان في أعمال جمال ناجي عندما تشيخ الذئاب.الشهبدر لهاشم غرايبة ودفاتر الطوفان لسميحة خريس ولا ننسى الحركة في الجغرافيا عند أحمد أبو سليم في رواية الحاسة صفر والجغرافيا السياسية التاريخية في أوراق معبد الكتبا لهاشم غرايبة».
ويؤشر الجداية على مزايا المكان في السرد بشقيه الواقعي والافتراضي، ويتابع «الجغرافيا والمكان قيمة أساسية في العمل الروائي وقيمة مضافة عندما تكشف الراوية عن الجانب المقابل للحكاية حيث تتحرك الرواية على جغرافيا منظورة وجغرافيا متخيلة جغرافيا تدور فيها أحداث الرواية وجغرافيا تتأثر بهذه الحركة وهذه الأحداث، وعندما يلتفت الروائي إلى الحكايا وجغرافيتها والجانب المقابل للحكاية وجغرافيتها وعلاقة الجغرافيتين بالمكان حتما ستتطور الحكاية كما تطور علم الفيزياء بالنسبية وعلم الكم الحديث».
copy short url   نسخ
23/10/2016
18926