+ A
A -
رازي نابلسي باحث وكاتب فلسطيني
هناك أخبار لا تصدَّق، فكيف إذا كانت هذه الأخبار في بلد كل أخباره لا تصدَّق؟ وحدها أخبار، كاغتيال الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، قادرة على جعل فلسطين تنهض، معلنةً الحداد من دون قرار. شيرين أبو عاقلة؟ هل اغتالوا شيرين أبو عاقلة؟ شيرين التي كبرنا معها، وأمامها. هي شيرين أبو عاقلة، بصوتها المعروف، وتوقيعها في نهاية كل حديث: شيرين أبو عاقلة- فلسطين. جاء الخبر من جنين، كما يبدو من آخر رسالة أرسلتها شيرين إلى مكاتب الجزيرة وخرجت إلى الضوء بعد استشهادها، دخلت لتغطية اقتحام قوات الدمار والهدم والاحتلال، ومحاصرتهم لأحد المنازل. ومن هناك، جاء الخبر صباحاً، خبر وقع كالصاعقة، فتمنت فلسطين برمتها أن تكون في كابوس، النهوض منه ممكن.
تأكد الخبر، إنه كابوس لا يمكن النهوض منه، استشهدت شيرين أبو عاقلة في جنين برصاص قناص إسرائيلي جاء ليؤمّن عمليات الهدم والإعدام والاختطاف اليومية التي ينفّذها جيشه، وجنود المشاة الذين يدخلون في كل ليلة لترهيب فلسطين. أطلق الرصاصة على رأس مَن جاءت من القدس لتسلّط الضوء على الجرائم التي أرادوا لها أن تحدث في الظلام.
كيف يمكن أن نكتب عنها، نحن الذين كنا لا نزال أطفالاً حين حملت شيرين قضيتنا، وخرجت بها تصدح، صوتاً وصورة، مع التحاقها بقناة الجزيرة في سنة 1997. وبعدها بثلاثة أعوام، اندلعت انتفاضة القدس والأقصى، الانتفاضة الثانية، التي ردت عليها إسرائيل بالقصف من الجو، وبنيران الدبابات، وباجتياح المدن، واغتيال القيادات. كانت هذه الانتفاضة، تحديداً، هي الانتفاضة التي شكلت وعي وذاكرة وهوية جيل كامل، كان يجلس أمام التلفاز، وهو لا يزال في العاشرة والحادية عشرة من العمر، ليشاهد: طائرة أباتشي إسرائيلية ترمي بحمم النار فوق رام الله؛ دبابة توجه فوهة نيرانها نحو صدر طفل يحمل حجراً؛ والداً يحتضن ابنه في باحات المسجد الأقصى، فاستشهد أمام أعيننا محمد الدرة. كانت شيرين هناك، تقف دائماً إلى جانب الإنسان كما قالت، ضد الحديد والنار والدمار. كانت معنا، نكبر أمامها على الشاشات، ونسمع صوتها فنعرفها قبل أن نشاهد الشاشة وما جاء فيها. فكانت الجزء الذي جاء لنا بهويتنا، ثقافتنا، معرفتنا، وذاكرتنا. فإذا كانت الانتفاضة الثانية أساس وعينا الحديث، وذاكرتنا، ومجازرهم، وجرائمهم، فشيرين أبو عاقلة هي الرسول الذي جاء بكل هذا إلى وعينا الذي كان في قيد الإنشاء.
ومن هنا، تحديداً، اشتقّت هذه الصدمة، التي استيقظ على وقعها هذا الشعب المسكين، من أسطورة وهيبة اسم شيرين أبو عاقلة، وما نقلته لنا شيرين أبو عاقلة. هذا الاسم الذي كان يرقى إلى مستوى قيادات سياسية بات في عداد الأساطير، لبطولة لا يفهمها العقل الطبيعي الجالس أمام التلفاز. كيف يمكن للإنسان أن يقف إلى جانب وحش على شكل دبابة، ويقدم تقريراً صحفياً عن «آخر التطورات»؟ وكيف يمكن أن تقف على ركام منزل هُدم تحت سلاسل الدبابات، إلى جانب سيارة قُصفت من السماء، في أرض يراقبها قناصة جاؤوا للقتل، وتختم: شيرين أبو عاقلة- فلسطين. لتبدأ بالتحرك من جديد بين الحوانيت وفي شوارع الحرب، وتتحضر بهدف إعداد التقرير القادم بعد بضع دقائق. وحدها الصحافة الفلسطينية تعيش هذا الواقع منذ ما يزيد عن 70 عاماً، من دون توقف. وحده الصحفي الفلسطيني، هو مَن تشكل الحرب روتيناً يومياً بالنسبة إليه. فالصحفي يذهب إلى ساحة الحرب لأيام، أشهر، وعام أو عامين في أبعد تقدير، ثم يعود بعدها إلى بلده الأم لكتابة تجربة، أو كتاب، أو رواية. أما هنا، فالصحافة ليست مهنة، وتغطية الحرب ليست تجربة، بل هي واقع يومي، فيه تقوم شيرين بإعداد التقارير عن اجتياح رام الله في بداية مشوارها، وتختمه وهي شهيدة تغطي حصار منزل في جنين بعد أكثر من 20 عاماً.
اغتيال ووقاحة لا مثيل لها
مباشرةً، في نشرات الصباح الباكر، خرج المتحدث الرسمي باسم جيش القتل والإعدام إلى الإعلام الإسرائيلي. وقال في برنامج الثامنة صباحاً عبر هيئة الإذاعة العامة الإسرائيلية: هناك احتمال أن تكون الصحفية قد قُتلت برصاص فلسطيني، قبل أن يتراجع عن كل رواياته الكاذبة، بعدها، بدأت جوقة إعلامية إسرائيلية، من شأنها أن تؤشر إلى الفرق الواضح والكبير جداً ما بين معنى كلمة «صحافة»، كما تراها شيرين أبو عاقلة حين قالت إنها أرادت أن تكون أقرب إلى الإنسان، ومعناها فيما يسمى «الإعلام الإسرائيلي». ففي الوقت الذي يتوجب على الصحفي معرفة الحقيقة وفحصها، وذكر كافة الحقائق المحيطة بها، قام الإعلام الإسرائيلي وأبواقه، التي تبدو أقرب إلى هيئة علاقات عامة للاحتلال والجيش القائم به منها إلى «الصحافة»، بالتشكيك في كافة الحقائق الموجودة والواضحة وضوح الشمس. فبدأت الجوقة كالتالي: أولاً، استضافة الناطق الرسمي الذي وضع الإطار العام للرواية الكاذبة؛ ثم إعادة تدويرها مرة تلو الأُخرى، مع مقولات عامة، مثل «قُتلت الصحفية خلال تبادُل إطلاق نار»، و«الفلسطينيون أطلقوا النار بشكل عشوائي، الأمر الذي جعل احتمال إصابتها برصاص فلسطيني قائماً»، و«حتى عندما تُقتل فلسطينية برصاص فلسطيني، فالإسرائيليون هم المُلامون»؛ وأخيراً، فيديو فج يتضمن إطلاق نار من مطلع درج بعيد، مرفقاً بتعليق «إطلاق نار من دون تفريق»، يتم توزيعه على يد وزارة الخارجية الإسرائيلية كدليل. وكأن اغتيال صحفية بحجم شيرين أبو عاقلة ليس إلا خبر بسيط يدعي «حدوث اشتباكات بين الطرفين»، من دون أي تطرُّق إلى الاجتياح الإسرائيلي، وإلى قناصة الجيش الإسرائيلي، واستمرار إطلاق النار بعد استشهادها.
الصحافة الحربية، كالفلسطينية، تعرف أين تقف، وكيف تتحرك، وكيف تكون مرئية. فكيف هي الحال إذا كان الحديث يدور عن صحفية بحجم شيرين أبو عاقلة؟ عاشت وعايشت الحرب بكل بشاعتها ومجازرها، وشاهدت وجعلتنا نشاهد معنى الإجرام الإسرائيلي. إن ادعاء الاحتلال ومحاولته طمس الحقيقة، أو بثّ الشك في الحقائق، بدلاً من تبيانها وتسليط الضوء عليها، ما هو إلا إشارة إلى أمرين في غاية الأهمية: أولاً، روح الإنسان في فلسطين بالنسبة إلى هذا الاستعمار لا تعني شيئاً؛ وثانياً، أن هذا الإعلام ليس إعلاماً موضوعياً، ولا محايداً، ولا إنسانياً، بل إنه ذراع لمشروع متعدد الأذرع يسعى لإدامة السيطرة على حياة الفلسطيني. فتراه يتبنى رواية «الناطق الرسمي» ليتحول هو بذاته إلى الناطق الرسمي. ولو بدا للوهلة الأولى أنه لا ينطق باسم سياسي هنا وسياسي هناك، كما هي حال الإعلام في العالم الثالث والأنظمة الديكتاتورية، إلا أنه ينطق باسم ما هو أعمق، ينطق باسم إدامة الظلم والاستعمار والاحتلال. وعليه، يبدو أن الخط الإعلامي الأساسي الذي وضعه الناطق الرسمي باسم الجيش سيكون هو خط الدفاع الإسرائيلي: طمس الحقيقة، وهو بالمناسبة ما أشار إليه رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينت، حين قال في خطابه بالكنيست صباح امس: أتمنى ألّا يغير الفلسطينيون الحقائق قبل التحقيق، في إشارة إلى أنهم لن يقبلوا تحمُّل مسؤولية شيء.
هذه الوقاحة، لا يمكن رؤيتها إلا عند التعامل مع احتلال كهذا: يقتل أسطورة من أساطير الشعب الفلسطيني، ويتهمه بقتلها. أما شهادة الصحفية شذى حنايشة، التي كانت إلى جانب أبو عاقلة، وتقول فيها إن شيرين والصحفيين كانوا مكشوفين ومرئيين، وأن قناصة إسرائيليين أطلقوا النار عليهم، وعقب سقوط شيرين استمروا في إطلاق النار على الأرض بعد أن وصل الصحفيون إلى منطقة لا يستطيعون الانسحاب منها، فإنها ليست مهمة. كما أن مقولة الشاهدة أنه لم يكن هناك اشتباك مسلح ساعة إطلاق النار على شيرين وقتلها، فإنها أيضاً لا تُعَد شهادة بالنسبة إلى إعلام إسرائيل والناطقين الرسميين فيه. أما ما أشارت إليه بأن رصاص القناصة منع الشبان من الوصول إلى الصحافية المصابة وإسعافها، فإنه الدليل الأكبر على أن المنطقة كانت ساحة قنص، وأن رصاص القناص هو الذي اخترق رأس أبو عاقلة من المنطقة الوحيدة المفتوحة خلف الأذن، بين السترة والخوذة. أما الأوقح، فهو المطالبة بتحقيق مشترك بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وكأن الطرفين سواسية، وكأن كليهما يريدان الحقيقة.
إدانات وإدانات، والسؤال:
من سيدفع الثمن؟
الإدانات كثيرة، من جميع الأطراف تقريباً، باستثناء المجرم. لكن السؤال الأساسي هو: هل سيدفع أحدهم ثمن إعدام أبو عاقلة؟.هل ستدفع إسرائيل ثمن اغتيال أيقونة إعلامية فلسطينية؟ هذا هو السؤال، والثمن يمكن أن يكون على عدة صُعُد، يبدأ من المكانة التي يتمتع بها الإعلاميون الإسرائيليون ودورهم في تبرير المجازر التي تقوم بها الدولة التي ينطقون باسمها، وصولاً إلى محاكمة قادة هذا الجيش في المحاكم الدولية، مروراً بمقاطعة الإعلام الإسرائيلي، أو المتحدثين باسمه.
وعلى الرغم من الألم والحداد، علينا أن نحافظ على الحقيقة... كما نقلتها أبو عاقلة.
copy short url   نسخ
14/05/2022
197