+ A
A -
ماهر الشريف مؤسسة الدراسات الفلسطينية
هاجمت الشرطة الإسرائيلية بوحشية التظاهرة الشعبية التي نُظمت، يوم الخميس الماضي، بدعوة من «لجنة التوجيه العليا للعرب في النقب»، المنبثقة عن «لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية»، احتجاجاً على تجريف الأراضي وزرع أشجار غابات تقوم بها طواقم تابعة للصندوق القومي اليهودي «الكيرن كاييمت» في أراضي منطقة الأطرش وقريتَي سعوة والصواوين في النقب، وذلك بذريعة أن ملكية هذه الأراضي تعود إلى الدولة. وبحسب صحيفة «هآرتس»، فإن هذه ليست المرة الأولى التي تستخدم فيها مؤسسة «الكيرن كاييمت» غرس الأشجار «كأداة سياسية»، إذ تسببت خطوة غرس أشجار مماثلة، قبل عامين، في اندلاع احتجاجات واسعة من طرف السكان البدو، الأمر الذي دفع الحكومة الإسرائيلية، التي كانت برئاسة بنيامين نتانياهو، إلى وقف عمليات غرس الأشجار.
وكان وزير الخارجية ورئيس الحكومة الحالية البديل يائير لبيد قد دعا، بعد انطلاق الاحتجاجات العربية يوم الثلاثاء في 11 يناير الجاري، إلى وقف عمليات التشجير بصورة مؤقتة، والعمل على التوصل إلى تسوية مع السكان البدو في النقب، لكن هذه الدعوة لم تقنع العرب المحتجين كما بيّنت تظاهرة يوم الخميس، التي شهدت اشتباكات دامية بين أفراد الشرطة والمتظاهرين أسفرت عن سقوط عدد من الجرحى واعتقال العشرات.
فشل سياسة التمدين القسري للسكان البدو
يُقدّر عدد البدو في إسرائيل بنحو 276000 نسمة، يعيشون بصورة رئيسية في صحراء النقب، ولكن أيضاً في منطقة الجليل، كما يقطن بعضهم حول القدس. ويمثّل هؤلاء البدو العرب 3.5 % من السكان، ويعتبرون من الأكثر حرماناً في المجتمع الإسرائيلي. وكانت السلطات الإسرائيلية قد سعت، منذ قيام دولة إسرائيل، إلى معاملة السكان البدو بصورة مختلفة عن معاملة بقية السكان العرب، إذ يمكن للبدو، على سبيل المثال، أداء الخدمة العسكرية والانضمام إلى الجيش على أساس تطوعي، وذلك تطبيقاً لسياسة «فرق تسد». بيد أن هذه السياسة لم تفلح كثيراً في تحقيق هدفها، وخصوصاً بعد أن صار معظم البدو يعبّرون، تحديداً منذ التسعينيات، عن تشبثهم بتاريخهم المشترك مع جميع فلسطينيي مناطق 1948، وتعاظم مشاركتهم في النضال ضد التمييز العنصري ومن أجل المساواة القومية.
وكان المواطنون البدو الذين بقوا في النقب بعد النكبة قد أقاموا في منطقة صغيرة محصورة شمال وشرق مدينة بئر السبع، قُدّرت مساحتها بأقل من 10 % من المساحة الإجمالية لصحراء النقب، بينما قررت السلطات الإسرائيلية الاستيلاء على المساحة الباقية واعتبارها أراضي دولة، بناءً على عدة قوانين تعود إلى سنوات قليلة بعد إنشاء الدولة، ولا سيما قانون أملاك الغائبين (1950) وقانون حيازة الأرض (1953)، منكرة ارتباط هؤلاء السكان بأرضهم وكذلك حقوقهم في الملكية في المناطق التي عاشوا فيها لقرون طويلة. ومنذ أواخر الستينيات، بدأت هذه السلطات بتطبيق سياسة التمدين القسري للسكان البدو، متذرعة بالحاجة إلى ربطهم بالخدمات «الحديثة» التي تقدمها الدولة، ومعتبرة أن تشتتهم لا يسمح لهم بالتمتع الكامل بالماء والكهرباء والمدارس والمستشفيات. وهكذا تمّ، ما بين سنة 1965 ومطلع التسعينيات، إنشاء سبع بلدات على أطراف مدينة بئر السبع، من أكبرها بلدة رهط التي يقطنها نحو 80000 نسمة. لكن مشاريع الحكومة، التي نفذت دون التشاور مع ممثلي المجتمع البدوي، لم تنجح النجاح الذي كان متوقعاً لها، ذلك أن أقل من نصف السكان البدو في النقب انتقل للإقامة في هذه البلدات السكنية، حيث كانت الظروف الاقتصادية والوصول إلى البنية التحتية الأساسية، مثل المياه أو الكهرباء، أفضل قليلاً من القرى التي لا تعترف بها الحكومة. بينما ظل أكثر من نصف عدد السكان البدو يعيشون فيما تسميه الحكومة الإسرائيلية «قرى غير معترف بها». ويُعزى فشل سياسة التمدين هذه، أساساً، إلى إدراك السكان البدو النوايا الحقيقية للزعماء الصهيونيين، الذين يطمحون في الواقع إلى الاستيلاء على جزء كبير من الأرض التي يقيم عليها البدو، بغية تهويدها واستخدامها في مشاريع مخصصة لغالبية يهود البلاد.
إحباط مخطط برافر الاقتلاع
بيد أن فشل التمدين القسري للسكان البدو لم يحل دون استمرار السلطات الإسرائيلية في انتهاج سياستها الرامية إلى اقتلاع هؤلاء السكان من أراضيهم، إذ أسفرت حملة قادها وزير البنى التحتية أفيغدور ليبرمان، في فبراير 2002، عن تدمير 1200 هكتار من المحاصيل التي اعتبرت غير قانونية في جنوب النقب، وذلك عبر قيام طائرات خفيفة برشها بمنتج سام. وبغية إضفاء الشرعية على هذه الحملة، أكد ليبرمان أنه: «يجب أن نوقف غزو البدو غير الشرعي لأراضي الدولة». ثم تمّ التخطيط لمشروع تطوير جديد لتوطين البدو للفترة 2003-2007، بذريعة «تحسين أوضاع المجتمع البدوي في النقب وتعزيز تطبيق القانون في هذه المنطقة». وبعد إخفاق هذا المشروع، شُكلت في أواخر سنة 2007 لجنة غولدبرغ، التي سميت على اسم قاضٍ سابق في المحكمة العليا الإسرائيلية، بهدف «تنظيم القرى البدوية في النقب»؛ وعلى الرغم من غياب ممثلي سكان «القرى غير الشرعية» عن عمل هذه اللجنة، فقد أوصت، في نوفمبر 2008، بأنه يتوجب على الدولة تنظيم أكبر عدد ممكن من هذه القرى، مشيرة إلى «الروابط التاريخية بين البدو وأراضيهم في هذه القرى». بيد أن الحكومة التي شكّلها بنيامين نتانياهو، في أواخر مارس 2009، لم تقر توصيات هذه اللجنة، وشكّلت، في مايو من ذلك العام، لجنة أخرى برئاسة نائب الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي ووزير التخطيط، أوري برافر، اقترحت مخططاً يوصي بمصادرة عشرات آلاف الدونمات من الأراضي العربية الفلسطينية في النقب، وبنقل سكان 22 قرية، من أصل أكثر من 40 قرية عربية غير معترف بها، داخل مناطق التخطيط اليهودي، والذين قُدّر عددهم آنذاك بنحو 40 ألف شخص. وفي 24 يونيو 2013، أقر الكنيست بالقراءة الأولى مخطط تلك اللجنة.
بيد أن هذا المخطط جوبه باحتجاجات شعبية واسعة في إسرائيل، دعمتها بعض التحركات التضامنية في عدد من الدول الغربية، فضلاً عن صدور تنديد رسمي به من جانب مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، نافي بيلاي، وهو ما أجبر الحكومة الإسرائيلية على التراجع، إذ أكد الوزير بيني بيغن، الذي تم تعيينه لتقويم معدل قبول المخطط بين السكان العرب، في أواخر سنة 2013 أن مخطط برافر ليس قابلاً للتطبيق كما هو. وقد أعلنت سارة ليا ويتسون، مديرة منظمة «هيومن رايتس ووتش» للشرق الأوسط، تعليقاً على هذا الموقف أن «الفشل السعيد للحكومة الإسرائيلية في تمرير هذا القانون التمييزي هو فرصة للبدء في معاملة البدو كمواطنين متساوين».
سياسة هدم المنازل والقرى
بغية إجبار السكان البدو على ترك أراضيهم، وبناء المزيد من الكيبوتسات والموشافات عليها، تلجأ السلطات الإسرائيلية إلى وسائل عديدة، منها اللجوء إلى تشجير الأراضي، ومنها هدم المنازل والقرى، إذ تهدم سنوياً ما يقرب من 2500 منزل بحسب المنظمة الإسرائيلية غير الحكومية «منتدى التعايش المدني في النقب من أجل المساواة المدنية» التي أسسها سنة 1997 عدد من المواطنين اليهود والعرب. أما القرى العربية التي هدمتها السلطات الإسرائيلية، فأشهرها قرية العراقيب، التي يعود تاريخها إلى العهد العثماني، وكان يقطنها قبل عمليات هدمها المتكررة أكثر من 400 نسمة، لم يبقَ منهم حالياً سوى بضع عائلات يسكن أفرادها قرب مقبرة القرية، ويواصلون النضال ضد هدمها من قبل السلطات. وكغيرها من القرى غير المعترف بها، لا تتوفر في قرية العراقيب خدمات طبية أو تربوية على الاطلاق، مما يضطر سكانها إلى السفر إلى بلدة رهط، التي تبعد حوالي ستة كيلومترات عن القرية، للحصول على هذه الخدمات، كما أنها غير متصلة بشبكة الكهرباء القطرية، ويستخدم السكان المولدات والألواح الشمسية لتوليد الكهرباء، ويضطرون لنقل المياه بالصهاريج بثمن باهظ من نقطة تبعد عنهم 18 كيلومتراً.
ويعود مخطط اقتلاع سكان هذه القرية إلى سنة 1951، عندما أمر الحاكم العسكري الإسرائيلي سكانها باخلاء القرية بصورة مؤقتة، لمدة ستة أشهر، بحجة أن الدولة تحتاج إلى مساحات من الأراضي لإقامة تدريبات عسكرية. وقد اضطر أهاليها آنذاك إلى السكن بالقرب من قريتهم وفي مناطق أخرى في النقب، إلى أن أخبرتهم السلطات بأنه سيمنع عليهم العودة إلى القرية. وفي السبعينيات، صار السكان يتقدمون إلى المحاكم لإثبات ملكية أراضيهم، وخصوصاً بعد قيام عمال الصندوق القومي اليهودي، في سنة 1977، بالعمل على أراضي قريتهم. ثم بدأوا منذ بداية سنة 2000 بزرع أراضيهم، فقامت السلطات الإسرائيلية، رداً على ذلك، برش الحقول وحرثها من أجل تدمير محاصيلها. وفي 27 يوليو 2010، هُدمت القرية بأكملها من قبل السلطات الإسرائيلية، التي قامت في 12 يونيو 2014 بهدم كل المباني المقامة بالقرب من مقبرة القرية. ومنذ ذلك الحين، قاربت محاولات هدم العراقيب نحو 200 محاولة، إلا أنه في كل مرة يعيد سكانها بناءها من جديد، لاسيما وأن غالبية بيوتها مصنوعة من الخشب والبلاستيك والصفيح، ويواصلون خوض النضال من أجل الإبقاء على قريتهم، وهو نضال يشمل بالإضافة إلى الجانب القضائي، نضالاً مدنياً تُقام من خلاله وقفات تظاهريه أسبوعية على مفرق بلدة لهافيم اليهودية المقابل للقرية.
وتبرز قرية أم الحيران بصفتها واحدة من أشهر القرى العربية غير المعترف بها المهددة بالهدم؛ وفيها قتل على يد الشرطة المربي يعقوب أبو القيعان خلال عملية إخلاء القرية سنة 2016. وكان يقطن في أم الحيران نحو ألف نسمة، معظمهم ينتمون إلى عشيرة أبو القيعان، وذلك قبل أن يوافق عدد من عائلاتها على ترك القرية والانتقال إلى البلدات السكنية. وتشرح مريم أبو القيعان، البالغة من العمر 30 عاماً، التي أصرت مع زوجها على البقاء في القرية، شروط حياتها فتقول: «هنا، ليس لدينا مياه جارية أو كهرباء، أو أي خدمة عامة، بينما سكان القرية المجاورة اليهود لديهم ماء وكهرباء وتعيش حيواناتهم أفضل مني». لكن ليس لدى مريم، لا هي ولا زوجها، نية لمغادرة منزلهما، بل توجد في غرفة معيشتهما لافتة كُتب عليها باللغة العربية: «بيتنا حيث قلبنا». وليس لدى الزوجين أبو القيعان أي معلومات عن وقت هدم منزلهما، وتعترف مريم: «بمجرد أن أرى الشرطة أو الجيش في المنطقة، أشعر بالخوف».
وهكذا، تتوالى مأساة بدو النقب العرب فصولاً، ويتواصل نضالهم، المتعدد الأشكال، ضد مشاريع اقتلاعهم من أراضي وطنهم، وهدم منازلهم وقراهم؛ هذه المشاريع التي تتظلل بذريعة تقليدية يلجأ إليها الاستعمار الاستيطاني، عادة، وهي «تمدين» السكان الأصلانيين ونقلهم إلى «الحداثة».
copy short url   نسخ
24/01/2022
414