+ A
A -
ألقى حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، كلمة في افتتاح دور الانعقاد العادي الأول من الفصل التشريعي الأول، الموافق لدور الانعقاد السنوي الخمسين لمجلس الشورى، فيما يلي نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الإخوة والأخوات أعضاء مجلس الشورى،
إنه لمن دواعي سروري أن ألتقي بكم بمناسبة عقد الاجتماع الأول لمجلس الشورى المنتخب، في هذا الدور الذي يوافق دور الانعقاد السنوي الخمسين للمجلس.
وأود في البداية أن أعرب لكم عن خالص التهنئة بفوزكم بثقة الناخبين وعضوية المجلس.
إننا ندرك جميعاً أهمية هذه اللحظة التاريخية التي نشهد فيها اكتمال المؤسسات التي نص عليها الدستور بإنشاء السلطة التشريعية المنتخبة إلى جانب السلطتين التنفيذية والقضائيـة.
كما أنني واثق من أنكم تدركون عظم المسؤولية الوطنية الملقاة على عاتقكم لدى قيامكم بمهامكم التشريعية، وترسيخ التعاون مع مجلس الوزراء تحقيقاً للمصالح العليا للبلاد.
ولا يفوتني في هذه المناسبة أن أنوه بالدور الذي قام به مجلس الشورى السابق، والتجربة التي راكمها، بما في ذلك تجسيده لشكل من المشاركة الشعبية في التشريع، وفي إبداء الرأي المسؤول والمشورة الصادقة، وكان بذلك خير عون للحكومة في القيام بمهامها في مختلف المجالات، مخلفاً بذلك تراثاً يهتدى به عند ممارسة مجلسكم الموقر لمهامـه.
كما لا يفوتني في هذا المقام أن أنوه بحسن سير العملية الانتخابية والتنظيم المحكم المتميز، والأجواء الحضارية التي سادت فيها.
حـضـرات الإخــوة والأخــوات،
لقد نجحت قطر خلال العام السابق وهذا العام فـي تـحـقـيـق عـدد مـن الأهـداف. ففي مجال الأمن الغذائي، خطونا خطوات كبيرة نحو الاكتفاء الذاتي في عدد من السلع الغذائية نتيجةً للمبادرات التي تقوم بها الدولة، لدعم إنتاج هذه السلع وتسويقها. كما جرى تسهيل عمليات الإنتاج والاستيراد وتعزيز الطاقة التخزينية عموماً، وضمان تخزيـن السلـع الاستراتيجيـة.
وفي مجال التنويع الاقتصادي، أجريت التعديلات التشريعية لتسهيل المعاملات التجارية، وتعزيز المنافسة، وحماية المستهلك، وتشجيع الاستثمار الصناعي، وزيادة الاستثمارات الأجنبية المباشرة بالسماح للمستثمرين الأجانب بتملك 100 % من رأس مال بعض الشركات، ودعم تنافسية المنتجات الوطنية.
وارتفعت مساهمة الصناعات المحلية إلى المرتبة الرابعة في الناتج المحلي الإجمالي، وما زال أمام الدولة الكثير لتقوم به في مجال تنويع مصادر الدخل، ولكن المهمة لا تقتصر على الدولة، بل إن للقطاع الخـاص دوراً فـي ذلك أيضـاً.
وفي مجال القطاع المالي والمصرفي، ورغم الهزات العالمية والإقليمية في السنوات الماضية، فقد أظهر هذا القطاع تماسكاً في مواجهتها، وتمكن مصرف قطر المركزي من الحفاظ على نمو الاحتياطيات الدولية، والمحافظة على سعر صرف الريال القطري، وحافظت قطر على ترتيبها الائتماني المرتفع لدى المؤسسات الائتمانية العالمية وعلى النظرة المستقبلية المـستـقـرة لاقتصـادهـا.
وتحتل قطر مكانة مرموقة ومراتب متقدمة في بعض المكونات الهامة ضمن مؤشرات التنافسية العالمية، مثل نسبة البطالة المنخفضة، ومعدل التضخم السنوي، وفي تمويل التطور التقني، والأمن السيبراني، والتنمية المستدامة، وغيرهـا.
وفيما يتعلق بقطاع الطاقة، فإن تغيير اسم "قطر للبترول" إلى "قطر للطاقة" يعكس مواكبة قطرية فعلية للتحول نحو الطاقة النظيفة والمتجددة. وفي هذا المجال، فإننا نعمل على صعيدين: الأول، زيادة إنتاج الغاز الطبيعي المسال، وتخفيض الانبعاثات الناجمة عن إنتاجه باستخدام أحدث التقنيات، والثاني: المساهمة في تطوير واستخدام الطاقة الشمسية.
وتولي الدولة اهتماماً خاصاً لحماية البيئة بإصدار التشريعات اللازمة في هذا الصدد، وتعزيز الوعي بأهمية البيئة في حياتنا اليومية، وإعادة تدوير المخلفات والنفايات الضارة، ورصد جودة الهواء ومياه البحر، وتقديم الحوافز المالية للشركات التي تقدم مشروعات تحافظ على البيئة وتواجه التغير المناخي.
الإخــوة والأخــوات،
نحن ماضون في جهودنا لتحقيق أهداف رؤية قطر الوطنية 2030، وإعداد الاستراتيجية الوطنية الثالثة لمدة خمس سنوات. وبهذه المناسبة، فإنني أؤكد على تحديد الأولويات في ضوء الاحتياجات الملحة للدولة، وأدعو جميع الجهات المعنية لإعداد استراتيجياتها القطاعية بالاستفادة من المرحلة السابقة بإخفاقاتها ونجاحاتها.
الخبرة والمعرفة تتراكمان ضمن المؤسسات، ومن هنا أهمية مأسسة العمل وعدم شخصنته، فلا تنشأ معرفة من تجاهل ذاكرة المؤسسة والبدء من جديد في كل مـرة مع تغـير الأشخـاص.
إن إعداد الاستراتيجية الوطنية الثالثة يتطلب تقييم ما حققته الاستراتيجيات الوطنية السابقة، كما يجب أن يبين التقييم مدى التقدم الذي أحرز في تحقيق أهداف رؤية قطر الوطنية وخصوصاً على مستوى كفاءة القوى العاملة، والتنويع الاقتصادي، ومدى مشاركة القطاع الخاص في المشاريع الكبرى وقدراته التنافسية، بما في ذلك قدرته التنافسية خارج الدولة، والمراحل التي توصلنا إليها في التوجه نحو الاقتصاد المعرفي، ومدى استفادة الدولة من استثماراتها في الشركات العالمية الكبرى في تدريب كفاءات قطريـة في الداخـل والخـارج.
لا جدال حول التقدم الذي حققته بلادنا في مجال البنى التحتية وعلى مستوى المؤسسات التعليمية والصحية، ويمكن التدليل على ذلك بالأرقام المتعلقة بمعدل دخل الفرد ومستوى المعيشة وأعداد الخريجين وغيرها، ومن المهم أن ندرك أن الحفاظ على هذه المنجزات لا يقل أهمية عن التفكير بتحقيق مبادرات جديدة، بل يفوقها أهمية.
ولكن ثمة مهام كبرى تنتظرنا متعلقة بالتنمية البشرية، وكل ما يرتبط بالثروة الحقيقية في أي بلد، وهـو الإنسـان. فلا يمكن فصل أية رؤية أو استراتيجية وطنية عن هذه القضية، ولا الخوض في نجاحها أو فشلها دون التطرق بكل جدية إلى قضايا قيمية متعلقة بالهوية والانتماء، والالتزام بأخلاق العمل، وشعور المواطن بواجباته ومسؤولياته تجاه أسرته وجيرانه والمؤسسة التي يعمل فيها والمجتمع بشكل عـام.
نحن نعيش في دولة مرت بعملية تحديث سريع ومجتمع ارتفع مستوى معيشته بسرعة فائقة، وتحسنت صحة الناس ومستوى تعليمهم ودخلهم، وظهرت موارد بشرية ماهرة وكفاءات قطرية، كما تمكنت الدولة من إنشاء شبكة أمان اجتماعية واسعة تضاهي ما حققته أعرق دول الرفاه الاجتماعي.
كل هذا حسن، ونحن نعمل دون توقف على تحسينه. ولكن علينا، من ناحية أخرى كمجتمع وكدولة، أن ندرك التحديات التي يفرضها ذلك، مثل مخاطر هيمنة قيم الحياة الاستهلاكية، والاستخفاف بالجوانب غير المادية في الحياة، وعدم تقدير العمل المنتج، وعدم تمتع الفرد بما يتوفر لديه لأنه منشغل دائماً بطلب المزيد من الاستهلاك، واستسهال الاستدانة لأغراض آنية عابرة وغير ضرورية، والاتكالية المبالغ فيهـا على الدولـة.
من شأن هذه السلبيات أن تهدد ما أنجزناه إذا لم تواجه بتعميق قيم المواطنة والمسؤولية المجتمعية.
وهذه مهمة لا تنجز بالوعظ والخطابات، فهنا يأتي دور الدولة عبر التربية والتعليم والخدمة الوطنية وغيرها، وهنا تبرز أهمية دور الإعلام، والأسرة والتواصل التربوي التهذيبي المباشر بين الأهل وأبنائهم وبناتهم وعدم الاعتماد على الغير في مهمة تربية الأطفال.
يجب أن يسأل كل منا نفسه ماذا عمل ويعمل من موقعه في خدمة مجتمعه؟ وما هي مساهمته في بناء هذا الوطن؟ وهل يقوم بعمله على أكمل وجه؟ وهل يقدر عمل الآخرين؟
إن من يسأل نفسه هذه الأسئلة لا يستسهل التذمر والشكوى.
حـضـرات الإخوة والأخــوات،
كما تعلمون جميعاً، مر إصدار الدستور الدائم للبلاد والعمل بأحكامه بمراحل عدة منذ إنشاء لجنة إعداد الدستور الدائم التي تولت صياغته، وطرح مسودته للاستفتاء العام وموافقة الغالبية العظمى من المواطنين عليه، وقد توالى بعد ذلك صدور القوانين والأدوات التشـريعيـة الأخـرى اللازمـة للعمل بأحكـام الدسـتور.
إن التشريعات، بما فيها التشريعات الدستورية الطابع، هي نتاج مرحلتها التاريخيـة، وهي تتطـور بتطـور الحيـاة. ومن منطلق حرصنا على تعزيز المواطنة القطرية المتساوية وترجمتها عملياً بوصفها علاقة مباشرة بين المواطن والدولة تقوم على الحقوق والواجبات، فقد أصدرت تعليماتي لمجلس الوزراء للعمل على إعداد التعديلات القانونية اللازمة التي تضمن تحقيق هذه الغاية وعرضها على مجلسكم الموقر، الذي بانتخابه وتشكيله يكتمل الإطار القانوني اللازم للنظر فـي إقـرار هـذه التعديـلات.
هذا مع العلم أن المواطنة ليست مسألة قانونية فحسب، بل مسألة حضارية قبل ذلك، ومسألة ولاء وانتماء، ومسألة واجبات وليست حقوق فقط. وهذا لا يتطلب عملاً تشريعياً فحسب، بل أيضاً اجتماعياً وتربوياً مكثفاً، ولا سيما في مكافحة تغليب العصبيات على الصالح العام أو على الولاء للوطن والوحدة الوطنية.
وهو الجانب السلبي في القبلية الذي تفاجأنا جميعاً مؤخراً حين ذكرتنا بوجوده بعض تجلياته السلبية. وعلى الرغم من أن مجتمعنا الواعي تجاوزها بسرعـة، لا يمكننـا تجاهـل الـداء لمجـرد اختفـاء أعراضـه.
إن القبيلة والعائلة الممتدة والأسرة جميعها من مكونات مجتمعنا التي نعتز بها، ومن أركان التعاضد والتكافل فيه، ولها جوانب إيجابية لا حصر لها، أما القبلية والعصبيات البغيضة على أنواعها، فيمكن أن يعبث بها، وأن تسخر للهدم وإفساد الوحدة الوطنية، وأن تستخدم غطاءً لعدم القيام بالواجبات وتعويضاً عن عدم الكفاءة، وهـو مـا لـم نقبـل بـه، ولـن نسمح به فـي المستقبـل أيضـاً.
لقد مرت قطر في تاريخها الحديث بتجارب وتحديات صعبة، وكانت وحدتنا الوطنية مصدر قوتنا بعد التوفيق من الله سبحانه وتعالى، ولن نسمح بتهديدها مستقبلاً، ومن هنا علينا دائماً عند التفكير ومراجعة التجارب التي نخوضها أن نرفع تماسكنا كقطريين فوق أي اعتبـار وتجنـب كل ما من شأنـه أن يشكـل تهديـداً له.
الإخــوة والأخــوات،
اقتربت استضافة كأس العالم في بلادنا، واستكملت التحضيرات على مستوى البنية التحتية أو تكاد، وقد عملنا على أن يندمج التحضير لها مع حاجات قطر بموجب خططها التنموية.
ومثلما سرعت هذه الاستضافة في إنجاز العديد من المشاريع التي نحتاجها أصلاً، فإنها أيضاً تتداخل مع مهام وتحديات اجتماعية وثقافية نواجهها كدولة حديثة متشابكة العلاقات مع الاقتصاد والتجارة العالميين.
إن هذه البطولة هي مناسبة كبرى ليس فقط لتعزيز مكانة الدولة عالمياً وتعزيز التواصل والتعاون بين الشعوب وإظهار طاقات قطر التنظيمية وبناها التحتية المتطورة وقدراتها على مستوى الأمن، بل أيضاً لإظهار انفتاح الشعب القطري المضياف وتسامحه، وهي قيم نتميز بها هنا في قطر، وأيضاً لإظهار الوجه الحقيقي الناصع لشعوب الخليج والعرب عمومًا.
الإخــوة والأخـــوات،
تعرفون أن قطر تذكر إيجابياً في سياق الحديث عن الأزمة الأفغانية، وذلك ليس فقط بسبب الجهود الإنسانية المقدرة دولياً التي بذلناها في هذا السياق، وإنما أيضاً بسبب تمسكنا بالحوار بديلاً عن الحروب، وبخيار الوساطة في حل النزاعات، الذي جعلنا نقبل طلب التوسـط بين الـولايات المتحـدة وحركـة طالبـان.
ومثلما نتطلع إلى مجتمع رفاهية يكون مجتمعاً منتجاً في الوقت ذاته، وإلى دولة مسالمة، ولكنها قادرة على الدفاع عن نفسها، ومجتمع ذي مستوى معيشي مرتفع، ولكنه أيضاً مجتمع متميز بأخلاقه وقيمه الأصيلة، نتطلع كذلك إلى سياسة خارجية تسهم في الحفاظ على هذا كله وفي تنميته، وتتناسب أيضاً مع حجم قطر وموقعها الجغرافي وثروتها.
كما أنه ثمة تكامل بين تحول قطر إلى فضاء لتشجيع العلم والمعرفة والثقافة وإنتاجها وتشجيع الرياضة وغيرها، ومركز للحوار وحل الخلافات بالطرق السلمية، وبين نوع السياسة الخارجية الذي أتحدث عنه.
وتحتم علاقات الأخوة والتاريخ والجغرافية المحافظة على مجلس التعاون والارتقاء بمؤسساته بما يتناسب مع طموحات شعوبنا، وقد حرصنا على تجاوز الخلافات داخله بالحوار، كما نسعى إلى ترسيخ الوفاق الذي تحقق في قمة العلا وتطويره.
نحن ننطلق من مبادئنا الراسخة فيما يتعلق بالعدالة في العلاقات الدولية، ومن أننا جزء من العالمين العربي والإسلامي، إذ لا نتنكر لهويتنا، كما إن الصناعة والتصدير المرتبطين بالطاقة، والاستثمارات في الخارج لأغراض تنويع مصادر الدخل ولصالح الأجيال القادمة وغيرها، هي مكونات رئيسة في سياستنا الخارجية.
وقد عملنا على التوصل إلى علاقات جيدة مع جميع دول العالم، مع تشديد على تحقيق تفاهم استراتيجي طويل المدى مع الحلفاء على المستويين الإقليمي والدولي. ولا نسعى في ذلك إلى التنافس مع أحد ولا إلى محاكاة أحد، بل إلى شق طريقنا الخاص بالموازنة بين مبادئنا الراسخة وحدود مقدراتنا ومصالح شعبنا وشعوب منطقتنا.
الإخـوة والأخــوات،
ما زلنا، شأننا في ذلك شأن العالـم أجمع، نواجه جائحة كورونا التي لم يشهد العصر الحديث مثيلاً لها من قبل، ونحمد الله أننا نجحنا بما اتخذناه من إجراءات في احتوائها والتقليل من آثارها الضارة إلى الحد الأدنى حتى الآن، وكنا من الدول القليلة التـي نجحـت فـي ذلك بحمـد الله ورعايتـه.
لقد نجحت مؤسساتنا الصحية باختبار كورونا الصعب بجدارة، مبينة درجة التطور الذي حققته كماً ونوعاً، وبهذه المناسبة نتوجه لهذه المؤسسات والعاملين فيها بالشكر والتقدير.
لقد حاولنا كما تعلمون أن نوازن بين صحة الناس كأولوية وبين ضرورات الاقتصاد، وأعتقد أننا قدمنا نموذجاً ناجحاً في هذه المرحلة الصعبة. وأنبه هنا إلى أن واجبات الوقاية ما زالت ملحة، ولا بديل عنها، ولا بد من مراعاتها، وكذلك الحاجة إلى اللقاح.
وخـتامـاً أتمنـى لكـم التـوفيق والسـداد في مـهـامكـم.
والـسـلام عـلـيكـم ورحـمـة الله وبـركـاتـه.
copy short url   نسخ
27/10/2021
709