+ A
A -
جوني منير كاتب لبناني
بسرعة وليس بتسرّع أنهت مديرية المخابرات في الجيش اللبناني تحقيقاتها في الأحداث الدموية التي شهدتها منطقة الطيونة.
السرد الواقعي للأحداث والمدعَّم بما سجّلته كاميرات المراقبة وإفادات الموقوفين والشهود، يعطي الاستنتاج بأنّ الاشتباك الذي حصل جاء وليد ساعته ولم يكن مخططاً له مسبقاً. تلاسن وشتائم طالت رموزاً دينية، ومن ثم اشتباك بالأيدي والحجارة وبدء أعمال شغب فإطلاق نار ومن ثم اشتعال الوضع بالرصاص والقذائف الصاروخية، وهو ما يعني أن اللجوء إلى الشارع في ظل حال الفقر المدقع الذي يرفع مستوى الغضب عند الناس، إضافة إلى حال الحقن السياسي وما ينتج من ذلك من تشنج، والإنغماس في لعبة شدّ العصب مع الدخول في مرحلة التحضير للانتخابات النيابية، كل ذلك يُنتج مزيجاً قاتلاً من الفوضى، ويدفع الأمور للإنزلاق بسرعة في لعبة الدم، مع عدم إغفال الواقع الاقليمي الدقيق الذي تمرّ فيه المنطقة، على أبواب تغييرات في موازين القوى، تمهيداً لرسم خريطة نفوذ سياسي جديد. وإلّا، كيف يمكن تفسير الاشتباكات التي دارت في وادي الجاموس في عكار، والتي أدّت في نتيجتها إلى حصيلة مؤلمة من الضحايا، ذلك أن طرفي القتال من الطائفة نفسها والمنطقة نفسها والاتجاه السياسي نفسه. ومن المفترض أن يحيل مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي فادي عقيقي الملف إلى قاضي التحقيق، للشروع في المسار القانوني والمحاكمات، لكن ثمة أسئلة كثيرة لنقاط لا تزال غامضة، تفتح الباب لاستغلال سياسي ولو على حساب دماء سالت ومأساة حدثت.
أولى هذه الأسئلة تبدأ من القاضي عقيقي نفسه، الذي طلب إفادة رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع، وهو ما أوحى وكأنّ طلبه جاء استكمالاً لإفادات جرى الإدلاء بها خلال التحقيقات. وعندما سُئل القاضي عقيقي عن النقاط التي استند اليها لإصدار قراره، كان جوابه اولاً بسبب الكلام الذي أدلى به جعجع خلال مقابلته التلفزيونية، حين تحدث عن «نصف 7 ايار» جديد. واعتبره القاضي اعترافاً تلقائياً بالمشاركة في الاشتباك. وثانياً، بناءً على ما ورد في التحقيقات بحصول اتصال بين أحد أفراد مجموعة «القوات» بمقر «القوات اللبنانية» في معراب في الليلة التي سبقت الأحداث الدامية.
لكن الجواب الذي تلقّاه القاضي عقيقي، بأنّ المقابلة تضمنت مواقف سياسية لا يمكن الاستناد إليها، أضف إلى ذلك أنّ الاتصال الهاتفي بمقر فيه مئات الأشخاص لا يعني بالضرورة تواصلاً مع جعجع نفسه.
الديبلوماسيون الغربيون الذين تابعوا أحداث «الخميس الأسود» ومن ثم التحقيقات التي حصلت، باتوا على قناعة كاملة بأنّ هنالك من يعمل على الاستثمار السياسي ولو فوق الدماء التي سالت. ويعتقد هؤلاء أن هنالك من دفع بالقاضي عقيقي في هذا الاتجاه، لحسابات تتعلق بالاستحقاقات التي ينتظرها لبنان. وقد يكون يريد استهداف من هو أبعد من جعجع، بحيث يصطاد العديد من العصافير في طلقة واحدة. إنها حسابات السلطة التي تعمي بصيرة أطراف الطبقة السياسية الحاكمة. و«يصفّر» الديبلوماسي الغربي مذهولاً من «القِطَب» المخفية التي تملأ هذا الملف، ويستتبع ذلك قائلاً: «لم أرَ طوال حياتي المهنية أسوأ من هذه الطبقة السياسية التي تحكمكم، فهي مستعدة لأي شيء لكي تبقى في السلطة».
ولم يكن هذا الديبلوماسي المشهود له بدهائه يستند إلى هذه النقطة فقط، لا بل ثمة نقاط غامضة اخرى جعلته مرتاباً من كل ما حصل. وعلى سبيل المثال، تساءل بكثير من الشك عن مسار الأحداث.
لقد وجد الديبلوماسيون الغربيون غمزاً معبّراً في الخطاب المطول الذي ألقاه أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله. ويعتقد هؤلاء، أنّه رغم خسارته للساحة المسيحية، التي طالما عمل على مداراتها من خلال حليفه «التيار الوطني الحر»، فهو وجد نفسه مضطراً إلى رفع سقف هجومه السياسي هرباً من احتكاكات قد تشهدها حديقته الخلفية.
وفي المقابل، هنالك على الساحة المسيحية من يحسب للانتخابات النيابية، وهنالك خصوصاً من يحسب للانتخابات الرئاسية، وهذا ما أنتج كل هذه الفوضى والخيوط المتشابكة، ومعه لا بدّ من طرح السؤال الأهم: هل ستتجدّد هذه المواجهات؟
لا يبدو أنّ أحداً يستطيع ضمان عدم تكرار حوادث مشابهة طالما أنّ الضرب بين أطراف السلطة في لبنان يحصل «تحت الزنار»، لكن الأكيد أن لا مقومات موجودة لاتساع نطاق الفوضى والذهاب باتجاه حرب اهلية كما يستهوي ترداده منذ مدة غير قصيرة. والسؤال الثاني هو: هل ستحصل الانتخابات النيابية؟
في العام 1975 كان الباب الواسع لإدخال لبنان في الحرب الأهلية، السعي لفرط الجيش. وعندما حصل ذلك انهارت خلفه كل مؤسسات الدولة اللبنانية، ودخل لبنان في أتون الحرب، ولم تستقم الأمور إلاّ بتلزيم سوريا للبنان.
أما اليوم، فلقد انهارت كل مؤسسات الدولة اللبنانية، وبقي الجيش سليماً بالحدّ الأدنى المطلوب، وهو ما يعطي الأمل بأنّ إعادة بناء الدولة ممكن حصوله استناداً على الجيش.. فحذارِ رقص السياسيين بين القبور وفوق الجثث.
copy short url   نسخ
26/10/2021
85