+ A
A -
أحمد أبو رتيمة كاتب فلسطيني
لا ريب أن قدر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عظيم في ميزان الله المطلع على أسرار خلقه، حتى بارك الله تعالى في رسالته فجعله سبباً لكل هذا الخير في العالم، وأوجز مهمته فقال: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».
لم تتنزل رسالة الله على محمد صلى الله عليه وسلم لتلامس فيه تشوقاً وانتظاراً، ولم يكن رسولنا صلى الله عليه وسلم قبل تنزل الوحي عليه يطمع في أكثر من حياة هادئة مستقيمة، حتى إنه حين خاطبه جبريل في المرة الأولى رجع إلى زوجته خائفاً مشفقاً يلتمس عندها الأمان: «زمليني، زمليني»، فنزل عليه الوحي ثانيةً يوقظه من راحته ويلقي عليه هذا القول الثقيل: «إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً».
كانت دعوة ثقيلة على نفسه بتكلفتها والثمن الذي تقتضي دفعه من راحته وهدوئه: «قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا».
وبقدر إنكار المرء لذاته بقدر علو قدره عند الله تعالى، هكذا كان حال الرسول محمد. لم يكن في البداية يرى لنفسه ميزة ترفعه عن قومه، لكن الله تعالى رأى في سريرة هذا الفقير اليتيم الصادق الأمين ما لم يره في سرائر كل الخلق، فارتضاه رسولاً أميناً على وحيه.
تظهر عظمة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في أنه أنجز ثورة جذرية غيرت التاريخ، مع أنه لم يكن صاحب ميل ثوري!
إن هناك كثيراً من الثوار الذين صنعوا جزءاً من التاريخ لكن شخصياتهم كانت ثورية. لقد كانوا ممتلئين بالغضب والاندفاع، فكان فعلهم الخارجي متلاقيا مع ميولهم النفسية..
لكن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم كان رجلاً ميالاً إلى الوداعة والسلام، لم يكن يطمح إلى أكثر من أن يظل في وئام مع قومه الذين كانوا يسمونه الصادق الأمين، وأن يتفرغ في غار حراء للتفكر والسباحة في ملكوت الله..
كانت ثورته استجابة لأمر إلهي وليس تعبيرا عن رغبة نفسية مشحونة بالغضب، لقد ظل في حالة السكون التي تحبها نفسه حتى نزل عليه الأمر الإلهي: «يا أيها المدثر قم فأنذر»..
تأملوا في جوابه حين اصطحبته خديجة إلى ورقة بن نوفل، فبين له أن ما رآه في غار حراء هو الناموس الذي كان يتنزل على موسى، ثم قال: «ليتني كنت جذعا إذ يخرجك قومك».
رد محمد عليه السلام مستغرباً: «أوَ مخرجي هم؟!».
إجابة ممتلئة بالوداعة، لم يكن في استعداده النفسي مثل هذا الخاطر، كيف سيخرجونه وهو قد قضى كل حياته محبا للوداعة والوئام؟!
هذه الطبيعة الميالة إلى الوئام والسلام لم تغيرها الأيام ولم تنل منها قوة وسلطة، فظهرت نفس الروح بعد أن قويت شوكته في المدينة واجتمع حوله الأنصار، فقال قبل صلح الحديبية: «يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب.. ماذا لو أنهم خلوا بيني وبين سائر العرب؟».. «والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها».
هذا يعني أن فعل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان متجردا من الهوى النفسي والميل الذاتي، ولذلك كان أثره في التاريخ خالداً عظيماً، فهو قد نشر دعوة التوحيد وحطم الأصنام وقوض الجاهلية، ولم يكن في كل ذلك مدفوعاً بالبحث عن لذة شخصية أو مراعياً لهوى نفسي، بل كان خالصاً لله ليس لنفسه في كل ذلك نصيب.
لقد أهدانا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أعظم ما يمكن أن يهدى إلى إنسان، لقد أهدانا الآباء والأمهات الحياة البيولوجية والرعاية في الطفولة، وهذا فضل عظيم لهم، لكن فضل الرسول محمد أعظم لأنه أهدانا حياة الروح وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وما تغني الحياة والراحة والمال إن كانت عاقبة صاحبها خسرا؟!
ما هي أعظم هدية قد تقدمها لإنسان؟ إن ساعدته بالمال فسينفد هذا المال، وإن ساعدته بالطعام فستنقضي شهوة الطعام، لكن إن ساعدته بأن هديته إلى الله تعالى فقد منحته الكنز الذي لا يبلى والخلود الأبدي في الجنة. لذلك قال الله تعالى في حق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: «النَّبيُّ أوْلَى بالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنفُسهِمْ».
كان الصحابة رضي الله عنهم يفتدون الرسول محمداً بأنفسهم، ويسارعون إلى حمايته ولو كان في ذلك هلاكهم، لم يكونوا يفعلون ذلك عصبية جاهلية أو خوفاً من هيمنته أو مراءاة، بل لأنهم علموا أن هذا الرسول هو وسيلتهم إلى الله ورضاه من رضى الله تعالى.
وقد كان من إكرام الله تعالى لهذا الرسول، على نقاء سريرته ونبل نفسه وعظمة أخلاقه، أن جعله الوسيلة إليه، فمن أراد أن يدخل في حضرة الله تعالى فليدخل من باب محمد صلى الله عليه وسلم. وتقدم فضل الصلاة والسلام على الرسول محمد على فضل دعاء المؤمن لنفسه، ففي هذه الصلاة نور الإيمان وتفريج الكربات وقضاء الحوائج.
أما الذين في قلوبهم كبر فيأنفون من تمجيد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ويرون في ذلك مبالغة، وربما زين الشيطان لأحدهم أن يقول لماذا كل هذا الثناء ولماذا لا نتصل بالله مباشرةً؟ وبعض الإجابة أن في الإكثار من الصلاة على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم واستحضار فضله كسر لكبر النفس وغرورها؛ عبر صرف تمركزها على ذاتها إلى التمركز حول مثل خارجي أسمى. فالنفس في اعتلالاتها وأمراضها تزين لصاحبها من الفضائل المتوهمة ما ليس لها، ويظن كل واحد أن له من الفضائل ما ليس لغيره، وهذا باطل وليس حقاً، وهذا هو مرض إبليس الذي أرداه: «أنا خير منه».
لذلك فإن الإكثار من الصلاة على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يضعف غرور النفس فيحييها، وتتصل ببركة تلك الصلاة بالروح المحمدية فتنير بها.
copy short url   نسخ
23/10/2021
340