+ A
A -
تواصلت تبعات زلزال صفقة الغواصات النووية التي أبرمتها الولايات المتحدة وبريطانيا مع أستراليا، حيث استدعت فرنسا سفيريها لدى واشنطن وكانبرا للتشاور بناء على طلب الرئيس ماكرون.
وجاء الإعلان عن صفقة الغواصات النووية في إطار مبادرة «أوكوس»، وهي شراكة أمنية ودفاعية بين أميركا وبريطانيا وأستراليا هدفها غير المعلن هو حصار الصين، لكن فرنسا اعتبرتها «طعنة في الظهر» بسبب صفقة غواصات تقليدية كانت باريس قد اتفقت عليها مع كانبرا.
الإعلان عن «أوكوس» -اختصار للبلدان الثلاثة أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة- باللغة الإنجليزية AUKUS– تم مساء الأربعاء 15 سبتمبر من جانب الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون ورئيس وزراء أستراليا سكوت موريسون، وهي عبارة عن شراكة دفاعية وأمنية جديدة قالوا إن هدفها «حماية مصالحهم» في المحيطين الهندي والهادي.
لكن الإعلان عن تلك الشراكة تسبب في ردود فعل غاضبة جداً من جانب فرنسا، وتحذيرات من «عقلية الحرب الباردة» من جانب الصين، واتخذت باريس عدداً من الخطوات التصعيدية تجاه واشنطن وصلت إلى حد استدعاء سفيرها هناك، وهو ما ينذر بأزمة عميقة في علاقات الحليفين.
أسرار الغضب الفرنسي
من إدارة بايدن
ورصد تقرير لصحيفة Washington Post الأميركية أسرار الغضب الفرنسي، الذي يتخطى الجانب الاقتصادي لفقدان صفقة الغواصات الهائلة في حجمها، ويهدد بتداعيات بعيدة المدى في التحالف الاستراتيجي بين واشنطن وباريس.
فقد استدعت فرنسا الجمعة 17 سبتمبر سفيريها لدى الولايات المتحدة وأستراليا للتشاور، مؤكدة الاستياء الفرنسي المتزايد حيال المفاوضات السرية حول صفقة تكنولوجيا الغواصات النووية بين الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا.
وفي بيان له قال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إن استدعاء السفراء جاء «بناء على طلب الرئيس ماكرون». وكان لودريان نفسه قد وصف الخميس 16 سبتمبر قرار إدارة بايدن بأنه «تصرف يليق بترامب»، في إشارة إلى الرئيس الأميركي السابق الذي رفع شعار «أمريكا أولاً» وأحدث شرخاً عميقاَ في العلاقات مع حلفاء أميركا الأوروبيين.
وتناول تقرير لشبكة CNN الأميركية القرار الفرنسي باستدعاء فيليب إيتيان سفير باريس لدى واشنطن، وكيف أن ذلك القرار غير المسبوق في التاريخ الحديث بين فرنسا والولايات المتحدة ينذر بوجود تداعيات خطيرة على المدى البعيد. وكان لودريان نفسه قد ألمح إلى ذلك في بيان استدعاء السفير.
فقد قال لودريان إن «هذا القرار الاستثنائي (استدعاء السفير) يعكس الخطورة الاستثنائية للإعلان يوم 15 سبتمبر من جانب أستراليا والولايات المتحدة. إن التخلي عن صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا والتي شهدت مناقشات مكثفة منذ عام 2016، والإعلان فجأة عن إمكانية نقل تكنولوجيا غواصات نووية يمثل سلوكا غير مقبول بين الحلفاء والشركاء. وتؤثر تلك التداعيات مفهوم تحالفنا ذاته وشراكتنا نفسها في المحيطين الهادي والهندي».
فقد اتفقت إدارة بايدن مع أستراليا على مشاركة تكنولوجيا غواصات نووية فائقة الحساسية، وهو ما أدى إلى اتفاقية سابقة بين أستراليا وفرنسا كانت الأولى ستشتري من الأخيرة بموجبها 12 غواصة ديزل، في صفقة قيمتها تتخطى 65 مليار دولار. وكان الرد الفرنسي غير مسبوق في «فظاظته»، بحسب تقرير واشنطن بوست، إذ ألغت باريس احتفالاً كان يُفترض أن يُقام الجمعة 17 سبتمبر بالتعاون بين فرنسا والولايات المتحدة لإحياء ذكرى المساعدة البحرية التي قدمتها فرنسا للقوات الأميركية أثناء حرب الاستقلال الأميركية، وفي اليوم التالي تم استدعاء السفير بناء على طلب ماكرون.
خسائر فرنسا
ليست اقتصادية فقط
وهناك عدد من الأسباب وراء الغضب الفرنسي؛ أولاً، كانت الصفقة ذات أهمية اقتصادية بالغة لقطاع الدفاع الفرنسي، وفقاً لما قاله بيير موركوس، الزميل الفرنسي الزائر لمركز الدراسات الاستراتيجية الدولية في واشنطن العاصمة.
وقال إن الصفقة كانت حاسمة بالنسبة «لشبكة كاملة من الشركات الصغيرة والمتوسطة» في فرنسا التي كان من المفترض أن تستفيد منها. وتُقارب الأهمية الاقتصادية لصفقة أستراليا أهمية اتفاقية تاريخية وقعت عام 2015 بين الهند وشركة Dassault Aviation الفرنسية للطيران لتزويد الهند بـ36 طائرة مقاتلة من طراز رافال.
ثانياً، تخسر فرنسا استراتيجياً بانسحاب أستراليا من الصفقة. حين عُقدت الصفقة في المقام الأول احتفلت الحكومة الفرنسية بـ«شراكة استراتيجية.. لخمسين عاماً قادمةً». يقول موركوس: «ذلك الإطار بأكمله أصبح اليوم مهدداً».
يعتقد المسؤولون الفرنسيون أيضاً أن اتفاقهم مع أستراليا كان مثالاً على التعاون الأميركي الفرنسي، لأنه كان من المتوقع أن يشارك الفرع الأسترالي لشركة Lockheed Martin الأميركية في المشروع.
السبب الرئيسي الثالث وراء الغضب الفرنسي هو الطريقة التي أُعلن بها عن الصفقة بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا. قال مسؤول فرنسي يوم الخميس 16 سبتمبر إن باريس علمت بالقرار فقط من وسائل الإعلام، رغم أنه كان يُناقش بين الأطراف المعنية منذ شهر.
وكانت السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض، جين بساكي، قد قالت إن فرنسا كانت «على علم مسبق» بالاتفاقية الجديدة، على الرغم من أن وزير الخارجية أنتوني بلينكن أشار إلى أن فرنسا لم تعلم بالأمر إلا في اليوم أو اليومين الماضيين، أي بعد الإعلان عنها رسمياً.
هل تتطور الأزمة
بين باريس وواشنطن؟
رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون قال إنه حذر ماكرون من مشاكل في العقد الفرنسي خلال زيارة لباريس في يونيو. لكن مسؤولاً دبلوماسياً فرنسياً رد الجمعة قائلاً إن الأستراليين، في اجتماعاتهم، سألوا فقط عما إذا كانت الغواصات الفرنسية لا تزال مناسبة لبيئة التهديد المتغيرة. وقال إن الأستراليين لم يُشيروا إلى أنهم كانوا يخططون للانتقال إلى تكنولوجيا غواصة مختلفة نتيجة لتلك المناقشات، ولا إلى أنهم يجرون محادثات بشأن صفقة مع بريطانيا والولايات المتحدة.
وقال موركوس إن حقيقة أن إدارة بايدن لم تتوقع على ما يبدو رد الفعل الفرنسي الغاضب تعني أننا «نتجه نحو أوقات عصيبة بين باريس وكانبيرا وواشنطن». وبمعنى أدق السؤال الآن هو: هل سيكون للأمر تبعات على المدى البعيد؟
يشير رد فعل فرنسا الفظ وغير المعتاد على الصفقة إلى أنه قد يكون لها تداعيات طويلة المدى على تعهد الرئيس بايدن بإعادة ضبط العلاقات عبر الأطلسي بعد أربع سنوات مضطربة في عهد الرئيس دونالد ترامب.
أما داخل الاتحاد الأوروبي، فقد يُقوي ذلك الصدع من موقف أولئك المنادين بتعزيز القدرات الدفاعية لدى الاتحاد ليكون أقل اعتماداً على الولايات المتحدة، وهو الاتجاه الذي اكتسب زخماً بالفعل خلال الأسابيع القليلة الماضية بسبب الانسحاب الفوضوي للولايات المتحدة من أفغانستان.
يوم الأربعاء 15 سبتمبر، أيدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين الدعوات لنشر قوة انتشار سريع تابعة للاتحاد الأوروبي قوامها 5 آلاف فرد، وأعلنت عن إجراءين جديدين: إعلان وشيك من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وقمة ركزت على الدفاع الأوروبي مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي كان أحد أكثر مؤيدي «الحكم الذاتي الاستراتيجي» للكتلة، أو بمعنى آخر تأسيس «جناح عسكري» تابع للاتحاد الأوروبي.
وعلى الرغم من أن ماكرون نفسه لم يعلق علناً عن صفقة الغواصات حتى الآن، فإن حكومته أوضحت أنها تعتبر الأزمة ذات صلة بالاتحاد الأوروبي الأوسع، وهي تُجري محادثات مع دول أوروبية أخرى.
طموحات فرنسا
في المحيط الهادئ
بشكل عام، قد لا تبدو فرنسا لاعباً رئيسياً في المحيطين الهادئ والهندي، إلا أن حقيقة الأمر تشير إلى أن باريس لديها بالفعل مصالح كبيرة هناك، وترى نفسها رأس حربة لأوروبا في المنطقة.
يعيش أكثر من 2 مليون مواطن فرنسي في مجموعة من الجزر التابعة للإدارة الفرنسية من بينها نيو كاليدونيا وريونيون، ويتمركز أكثر من 7 آلاف جندي فرنسي في المنطقة.
ونتيجة لذلك، لا ترى فرنسا نفسها فقط باعتبارها «دولة أوروبية»، وإنما كذلك دولة ذات جذور ضاربة في منطقة المحيط الهادي والهندي، كما يقول موركوس.
ويتوازى اهتمامها الأمني بشكل كبير مع قلق الولايات المتحدة وأستراليا من جرأة الصين، لكن فرنسا ترى نفسها كذلك قوة فرض استقرار محتملة. ولطالما اعتمدت استراتيجيتها على الشراكات مع الدول مثل أستراليا، وسنغافورة، واليابان.
يقول موركوس: «ستهدد الصفقة الأميركية الأسترالية الاستراتيجية الفرنسية في المنطقة أو تحد منها على أقل تقدير».
وبالتالي فإن العنصر الاستراتيجي حاضر بقوة في كواليس الصدمة الفرنسية من إلغاء صفقة الغواصات مع أستراليا، والإعلان عنها بتلك الطريقة، إضافة إلى أن مبادرة أوكوس نفسها تضم بريطانيا مع الولايات المتحدة وأستراليا، فيما يفسره الفرنسيون على أنه استبعاد ليس فقط لباريس ولكن للاتحاد الأوروبي ككل.
وفي ظل هذه الصورة المتشابكة، والتي يزيد من تعقيدها بكل تأكيد الموقف الداخلي في فرنسا نفسها وبالتحديد الانتخابات الرئاسية المقبلة والتي يواجه فيها ماكرون منافسة شرسة مع ماري لوبان زعيمة اليمين المتطرف، كما أعلنت آن هيدالغو ترشحها، ولا تصب تلك التطورات الصادمة في صفقة الغواصات في صالح ماكرون بالتأكيد، مما يعني أن التصعيد مع واشنطن سيكون الاتجاه الأرجح، والسؤال: إلى أي مدى؟
copy short url   نسخ
24/09/2021
414