+ A
A -
دلال البزري كاتبة لبنانية
قد تمرّ عشر سنوات ونحن ما نزال غائصين في متاهات التحقيق بجريمة انفجار المرفأ في بيروت، والمؤكد أن هذا التحقيق ليس بنداً محورياً في الضغوط التي يمارسها «المجتمع الدولي» لتشكيل حكومة «إصلاحات»، ولا في المفاوضات الجارية بين الأميركيين والإيرانيين حول النووي. يكفي أن تنْظر إلى التحقيق الدولي في جريمة اغتيال رفيق الحريري. عشر سنوات على بُعد آلاف الكيلومترات، مليار دولار تكلفة، شبهات واتهامات مباشرة.. كلها ذهبت مع الريح. وحتى لو لم يتوقف التمويل. ماذا ستكون النتيجة غير الذي أمامنا؟ أصحاب الحق يساومون مع المتهمين المباشَرين، يصافحون كبارهم، يحسبون بحساباتهم، هم الذين تقوم كل دعايتهم الانتخابية على كونهم «آل الشهيد». لا المحكمة ولا النتائج الأولية التي خلصت إليها استطاعت أن تغير شيئاً: لا في التركيبة الحاكمة، ولا في عقلية «الشعوب» اللبنانية المنضوية تحت لوائها.
التحقيق الحاصل الآن على يد القاضي طارق البيطار هو الذي يحتاج إلى أن يستمر ويتطور، بصفته تحقيقاً «محلياً»، وإن استعان بخبرات وخرائط دولية، وإن شابَته الحسابات البروتوكولية الإجرائية. لماذا؟ لماذا يجب أن يكون التحقيق بجريمة المرفأ بيد اللبنانيين، لا بيد «المجتمع الدولي»؟
أولاً: لأن التحقيق اللبناني «المحلي» سوف يمرّ بعقبات، بدأت تطل برأسها باكراً. يعني مثلاً: أمراء الطوائف أفهموا الجميع بأنهم لا يرغبون بالذهاب إلى الاستجواب. دافعوا عن رجالاتهم المشتبه فيهم، المسْتدعين إلى التحقيق. ثم ما لبثوا أن عادوا عن تمنّعهم. وبجوقةٍ واحدة، قالوا إن لا تحقيق إلا إذا كان «شاملاً مطلقاً». هذا مستعد لأن يمثل أمام القضاء للإدلاء بـ«إفادته». وذاك مع تعليق كل المواد الدستورية التي تمنح الحصانة لرئيس الجمهورية والحكومة والوزراء والنواب وثالث يذكّرنا أنه من زمان، منذ العام 1992، تقدّم باقتراح رفع الحصانة عن كل هؤلاء ورابع أن كل البرلمان وكتَله النيابية «على أتمّ الاستعداد لرفع الحصانات عن الجميع دون استثناء» وغيرهم ممن لا يسع المقال تعدادهم.
هذه الأكاذيب ليست موجهة إلى «المجتمع الدولي»، إنما إلينا، نحن الذين من الداخل. نحن الذين مطلوب منا أن نصدّق، وغرضها أن يكون أصحابها جزءاً من الاحتفال بمرور سنة على الانفجار، وأن يتزيّنوا بالبراءة المطلقة عشية الانتخابات النيابية.
ثانياً: لأن الكذبة الواحدة لا تقوم من غير كذبات تساندها. إنما على شبكةٍ متداخلة، على جدائل مرصوصة من الأكاذيب، ذات تراث عريق، وكذبة البراءة من انفجار المرفأ تتستّر خلفها جميع الكذبات، أقربها إلينا جرائم اغتيال كل من كان يملك مستنداتٍ تثبت التورّط في جريمة المرفأ، وأبرز هؤلاء الشهداء لقمان سليم.
سنكون واثقين أو غير واثقين من التحقيق الدولي بحسب مواقفنا في الانقسام السياسي، ولكن أي أثر يتركه ذاك التحقيق؟ أو بالأحرى مجريات التحقيق؟ وبالتالي علينا؟
ثالثاً: تسليم التحقيق لـ «المجتمع الدولي»، لو تحقَّق بعد مطالباتٍ لا يثق أصحابها بالتحقيق المحلي. ماذا يعني؟ أن هذا المجتمع سوف يحوّل الانفجار إلى أداة ابتزاز غير ثابتة تجاه هذا الفريق أو ذاك، أو تجاه كل الأفرقاء. وبما أن الأزمة في لبنان على صلة مباشرة وعلنية بالمفاوضات النووية بين إيران وأميركا، فإن بند التحقيق في الانفجار سيكون بند مقايضة عالمية - إقليمية. يندرج ربما تحت عنوان «النفوذ الإقليمي»، وفي معظم الحالات، يجمّد التحقيق، توضع القضية في الرفّ، من دون أن تُنسى. مثل «حقوق الإنسان» في عوالمنا، أو العوالم الشبيهة بها. توجَّه إلى مرتكبيها بطاقة صفراء (إنذار) إذا تجاسَروا على هذا «المجتمع»، بهذا أو ذاك من المواقف. أو يكون التحقيق بالعكس: مادّة استقواء ضمني لطرف آخر من المجتمع الدولي. من أننا استطعنا أن نفعل كذا وكيت، ولن تتمكّنوا منا. التحقيق الدولي، أو الوصاية الدولية، أو أي شيءٍ دولي، لن يفضي إلى نتيجةٍ تهمّنا، بقدر ما تهمّ القائمين عليهما.
رابعاً: التحقيق المحلي بتعثراته ومعاركه سيخرجنا من لغاتنا العديدة، من لعنة كوننا شعوباً لا شعباً واحداً. في الإنجيل أنه منذ 4.200 عام كان الطوفان قد انتهى. عادت الحياة إلى طبيعتها، استقرّ النبي نوح في بابل، ومعه كل الناجين. ولكن بعد مائة عام، كبرَ الغرور في قلوب البابِليين، فقرّروا أن يبنوا برجاً يبلغ السماء، ويكونون بذلك قادرين على التكلم مع الله من دون كِلفة. كان هدفهم تجنّب فيَضان آخر، وتحدّي الله. لكن الله لم يدعهم في حالهم، قرّر أن يقسّمهم، فأنزلَ على كل واحد منهم لغة لا يفهمها الآخر. هكذا تشوَّش البابليون، ولم يَعُد ممكناً أن يتفاهموا، فاضطروا للخروج من بابل، وأن يتبعْثروا في أنحاء الدنيا، كل واحد منهم في اتجاه.
copy short url   نسخ
06/08/2021
336