+ A
A -
يبدو أن تراجع حدة الخطاب السياسي المرتبط حصرا بعملية تشكيل الحكومة في لبنان وشروط القوى السياسية والشروط المضادة التي سيطرت على المرحلة الماضية، يعود إلى سبب أساسي، هو أن معظم الأحزاب بدأت تحضيراتها للانتخابات النيابية.
وبالتالي، فإن خوض هذه الانتخابات والحفاظ على حد أدنى من النتائج الجيدة فيها يستدعي من دون أدنى شك فرملة الانهيار المالي والاقتصادي، وهذا لا يتم إلا من خلال تشكيل حكومة تتمتع بغطاء إقليمي ودولي بشكل سريع.
من هنا، تعمل القوى السياسية على التعايش مع فكرة تقديم تنازلات حكومية، فرئيس الوزراء اللبناني الأسبق سعد الحريري قدم التنازل الأكبر من خلال اعتذاره عن عدم التشكيل.
ومن الواضح أن التيار الوطني الحر هو الطرف الثاني الأكثر تنازلا من خلال إعلان رغبته البقاء في المعارضة وسحب خطابه الحاد المرتبط بالميثاقية والصلاحيات. والمفارقة أن المستقبل، والوطني الحر قررا القيام بدور المعارضة في الأشهر المقبلة قبل الانتخابات.
في المقابل يعمل «حزب الله» بشكل واضح على تسهيل التشكيل، وبدا ذلك من خلال لقاءاته مع المسؤولين الفرنسيين، الذين أبلغهم أنه سيساهم في تذليل العقبات، خصوصا أن الحزب مهتم بوقف حالة الانهيار الحادة لإراحة بيئته الشعبية قبل الاستحقاق النيابي وهذا بطبيعة الحال ينطبق على حركة «أمل»، التي بدأت العمل على تزييت ماكيناتها الانتخابية.
بدوره سبق الحزب التقدمي الاشتراكي الجميع في التفكير بالانتخابات، ودعا إلى تشكيل حكومة قبل أشهر، لا بل بدأ عملية إعادة تموضع سياسية بالتقارب مع التيار الوطني الحر، التي قد يكون أحد أهم أهدافها إيجاد حلول لمنع أي اختراق في دوائر الشوف وعاليه.
هكذا بدأت القوى السياسية استعداداتها اللوجستية والاعلامية لخوض الاستحقاق النيابي المقبل، مدعومة بشكل جدي من بعض الدول الاقليمية التي أعطتها دفعا ودعما سياسيا واضحا منذ انفجار الرابع من أغسطس حتى اليوم وذلك عبر المبادرات والمساعي والمؤتمرات.
في جولتي الاستشارات النيابية الملزمة مع الرئيس اللبناني وغير الملزمة مع رئيس مجلس النواب، بدا الانطباع العام «إيجابيًا». كلّ الكتل تُجمِع على دعم الرئيس المكلَّف تشكيل الحكومة نجيب ميقاتي وتسهيل مهمّته «الصعبة»، وربما «المعقَّدة»، بل تقول إنّها «لا تريد» شيئا لنفسها، بما يفترض أن يطيح، لو صدَق، بكلّ العقد، الحقيقيّة منها كما المفتعلة.
لعلّ الرئيس ميقاتي نفسه أكّد، رغم تطبيقه شعار «خير الكلام ما قلّ ودلّ»، هذا الجو «الإيجابيّ»، حيث شعر كلّ من التقوه واطّلعوا على أجوائه بأنّه «مستعجل» تأليف حكومة تكون قادرة على تلبية تطلّعات اللبنانيين، والانطلاق بورشة الإصلاحات التي ينتظرها المجتمع الدولي منذ أشهر طويلة، لمدّ يد المساعدة، لعلّها تنجح في تجنيب اللبنانيين سيناريو «الانهيار» شبه الحتميّ، والذي ستكون تداعياته «كارثيّة» على الجميع، متى وقع.
وسرعان ما ترجم ميقاتي هذا «الاستعجال» على أرض الواقع، إذ لم تكد الاستشارات النيابية التي أجراها مع رئيس مجلس النواب تنتهي، حتى توجّه إلى قصر بعبدا، حيث تحدّثت المعلومات عن تقديمه «عرضًا أوليًا» لشكل حكومته ومناقشته مع رئيس الجمهورية ميشال عون، على أن يكون للبحث صلة، في لقاءات «مكثّفة» متتالية، ستعقد من أجل الخروج بحكومة قريبًا، وربما قبل الرابع من آب كما يروّج البعض.
الطريق «معبّدة»
لكن، خلافًا لكلّ هذه الأجواء «الوردية»، ثمّة من يؤكّد أنّ الطريق لن تكون «معبَّدة» أمام الرئيس المكلّف لتحقيق ما يصبو إليه، وبالوتيرة السريعة التي يريدها، ولو توافرت لديه الإرادة الحقيقية لإحداث «الخرق» المطلوب، لا سيما وأن البناء على ما يقوله النواب في العَلَن وأمام الإعلام بعد الاستشارات، يمكن أن يكون «مزيَّفًا ووهميًا» إلى حدّ بعيد.
ويذكّر هؤلاء بأنّ الأجواء الإيجابية التي أعقبت جولتي الاستشارات لا تشكّل «سابقة» من نوعها، إذ سبق أن أحاطت بالاستشارات التي أجراها «سلف» ميقاتي في المهمّة، سعد الحريري، حيث أوحت مواقف النواب والكتل أنّهم سيدعمونه ويسهّلون مهمّته، وهو ما جعل الكثيرين «يتكهّنون» يومها بولادة سريعة للحكومة، حتى إنّ البعض ذهب في «تفاؤله» لحدّ توقع أن تبصر النور بفترة قياسيّة، فإذا بالرئيس المكلّف يبقى تسعة أشهر عاجزًا عن التأليف.
ولعلّ «العِبرة» تكمن في أنّ هذه الأجواء الإيجابية «المزيّفة»، إن جاز التعبير، بقيت تراوح مكانها طيلة فترة الأشهر التسعة التي قضاها الحريري وهو يحاول تأليف الحكومة، أو ربما بتعبير أدقّ، تذهب تارة وتعود تارةً أخرى، فكانت أسهم «التفاؤل» ترتفع مع كلّ زيارة له إلى قصر بعبدا، من دون أن يترجَم ذلك على أرض الواقع، سوى بالاتجاه المعاكس، حين كانت «السجالات النارية» تنفجر بين الجانبين، دون أيّ مقدّمات.
الأنظار على التيار
من هنا، ربما اتجهت الأنظار تحديدًا إلى موقف رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير السابق جبران باسيل، الذي بدا بالنسبة للكثير من المراقبين متأرجحًا بين الإيجابية والسلبية، فهو أبدى انفتاحًا على الرئيس المكلَّف، وأكّد أنّه سيقابل أيّ إيجابية من جانبه بإيجابيّة مماثلة بل أكبر منها، وقال إنّه لا يريد أيّ «حصّة» في الحكومة، من دون أن «يحسم» سلفًا مسألة عدم منحها الثقة كما كان يفعل مع حكومة الحريري التي لم تبصر النور.
لكنّ كثيرين رأوا «سلبية» مغلَّفة بهذه «الإيجابية»، فعبارة أنه لا يريد «شيئا» من الحكومة، سبق أن قالها في مرحلة تكليف الحريري، من دون أن تترجَم تسهيلاً على خطّ التأليف، إذ يضعها كثيرون في خانة «رمي الكرة» في ملعب الآخرين لا أكثر ولا أقلّ، علمًا أنّ هناك من طرح علامات استفهام حول بعض ما خرج به باسيل، في هذا التوقيت «الحَرِج»، ولا سيما لجهة حديثه عن «التجربة غير المشجّعة» مع الرئيس ميقاتي.
وبين هذا وذاك، ستكون الأنظار مشدودة نحو كيفية «ترجمة» باسيل لموقفه «المبدئي» في الاستشارات الفعليّة والجدّية، في ظلّ وجهتي نظر غير متقاطعتين داخل «التيار»، بين من يعتبر المرحلة الحالية استكمالاً لمرحلة تكليف الحريري، ما يضعها في الخانة نفسها، ومن يرى في المقابل أنّ «روحيّة» ميقاتي مختلفة، وهي تتطلّب مقاربة من نوع آخر، لا سيما وأنّ «الفرصة» المُتاحة اليوم قد لا تتوافر في المستقبل القريب.
في هذا السياق يقولون إعلاميون لبنانيون إن التوافقات الاقليمية والداخلية حُبكت جيدا من أجل البدء بمسار إنقاذي يؤمن بعضاً من جرعات الدعم للساحة اللبنانية منعاً لوقوع الانهيار الكامل، ويبدو أيضاً أن هذه التوافقات صلبة جداً ولا يمكن لأي طرف سياسي لبناني الوقوف في وجهها، ليس لكونها اقليمية وحسب، بل لأن الاوضاع في البلاد لا تحتمل مزيدا من التعطيل.
لكن هذا كله لا يلغي سؤالا مفصلياً عن امكانية ذهاب التيار «الوطني الحر» باتجاه عملية تعطيل التشكيل، غير أن الاجابة على هذا السؤال يمكن استنتاجها من خلال التصريحات العونية ورئيس التيار تحديدا الذي يحاول الإيحاء بإيجابية جدّية بعيدا عن رغبته بعدم المشاركة في الحكومة. فهل يستفيد النائب جبران باسيل من الاصطفاف في المعارضة؟
وفق مصادر سياسية مطلعة، فإن باسيل لا ينوي الانتقال فعلياً إلى المعارضة، لكنه يحاول الاستفادة من حضور رئيس الجمهورية ميشال عون وتمثيله الحكومي لتظهير نفسه بصورة غير المشارك في السلطة من أجل الاستمرار بالخطاب الشعبوي الذي بدأه قبل مدة، والذي على ما يبدو يأخذ مجراه إلى حدّ ما في الشارع المسيحي أقله من خلال شدّ العصب العوني من دون أن يكون قادراً على استقطاب فئات اخرى نحوه.
إذا، فإن باسيل يراهن على التصعيد في خطابه المرتبط بالتدقيق الجنائي ورفع الحصانات وغيرها من الشعارات التي تتلاقى مع مطالب الحراك، حتى انه كان يتجه إلى تسمية السفير نواف سلام لمراضاة شارع الثورة والتخفيف من حدة اشتباكه معه، لكن ثمة ظروف وحسابات سياسية حالت دون ذلك.
في المحصلة، فإن الهدف الاساسي الذي يتطلع اليه باسيل هو الانتخابات النيابية المقبلة، اذ يرغب في تحسين واقعه الشعبي للحفاظ على كتلته التي يستطيع من خلالها أن يعود إلى السلطة ليفاوض «بكيفه» ويفرض شروطه كما اعتاد دوماً. لذلك فإن عملية التسهيل التي يجاهر بها سيعمل على الاستفادة منها في منحيين؛ المنحى الأول هو انه لن يغضب المجتمع الاوروبي والفرنسيين على وجه التحديد الراغبين بالتسوية، والمنحى الثاني هو انه يركز على عدم استفزاز الشارع.
في المقابل، فإن باسيل سيستفيد من ركونه إلى المعارضة في تخفيف حدة أزمته مع الشارع المسيحي من جهة، والعمل من جهة ثانية بشكل دؤوب على تنظيم صفوفه وتحضير الماكينات الانتخابية القادرة على خوض الانتخابات.
في كل الأحوال، لا تزال «الإيجابية» مسيطرة على الأجواء، «إيجابية» يحاول الرئيس ميقاتي تكريسها بكلّ طاقته، بتغليب «التفاؤل» على ما عداه، والبناء على ما يظهر من مؤشّرات «مشجّعة»، قافزًا فوق تلك «السلبيّة أو النافرة». لكنّ العبرة تبقى مرّة أخرى بحقيقة مواقف الكتل الأخرى، والتي ستبدأ بالظهور بشكل جدّي في الساعات المقبل، بعيدًا عن جو الاستشارات العلنيّة، التي أضحت «استعراضيّة» في جانبٍ كبير منها!.
في اليوم الأول حمل الرئيس ميقاتي تصورا اوليا لخارطة الحكومة العتيدة، شكلا وعددا ومهاما، ناقشه مع رئيس الجمهورية في اجواء إيجابية للغاية، عكست رغبة في التعاون والتنسيق، على أن تكون اللقاءات التالية المحك الفعلي في الذهاب نحو الحل المنشود أو العودة مجددا إلى التعقيد.
وفور عودته من لقاء رئيس الجمهورية، عبّر الرئيس المكلف عن ارتياحه إلى اجواء الاجتماع «الذي ابدى خلاله عون إيجابية في النقاش، مع التشديد على بعض المسائل المبدئية التي يتمسك بها».
وإذ أشار إلى «أن النقاش التفصيلي في التركيبة الحكومية وفق التصور الذي اعده بدأ بالفعل»، حرص الرئيس المكلف على التأكيد «ان البحث لم يتناول على الاطلاق اسماء أو حقائب محددة».
في كل الأحوال فإن مَن سمّى الرئيس ميقاتي ليخلف الحريري في هذه المهمة الصعبة، والتي يقول البعض عنها إنها مستحيلة، يعرف أن ليس بينه وبين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وحتى بينه وبين ئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل، علاقات ملتبسة، وأن لا شيء بينهم في الشخصي، بل قد يكون بينهم اختلاف في وجهات النظر، خصوصًا في ما يتعلق بتفسير الدستور وتطبيقه كما هو من دون إجتهادات خاطئة، ومن دون مزايدات في غير محلها.
الفرق بين الرئيسين ميقاتي والحريري أن ليس هناك من أمور شخصية عالقة بين الأول وفريق رئيس الجمهورية، فيما كانت العقبة الأساسية في مشوار التأليف بالنسبة إلى الثاني، أن لا الرئيس عون ولا النائب باسيل كانا يريدان أن يكون الحريري شريكًا لهما في السلطة في آخر عهدهما، وعشية الانتخابات النيابية، التي ستحدّد نتائجها وإفرازاتها معالم المرحلة المقبلة، خصوصًا أن المجلس النيابي الذي سيتشكل في إنتخابات ربيع العام المقبل سيحدّد هوية رئيس الجمهورية المفترض أن يُنتخب في خريف العام نفسه بعد انتهاء ولاية الرئيس عون.
الرئيس ميقاتي، قال عنه رئيس الجمهورية قبل تكليفه مهمة تشكيل الحكومة، إنه يعرف أن يدّور الزوايا، ويعرف أن يأخذ ويعطي، ونزيد أنه يعرف تمام المعرفة كيف تُدار الأمور، وكيف تُزان بميزان الجوهرجي، ويعرف أيضًا أن التوافق لا يعني التنازل عن الأساسيات، ويعرف أيضًا وأيضًا أن الشراكة الحقيقية تقوم على أسس ثابتة لا تخضع للمزاجية وهي غير قابلة للمساومة، لأن التفاهم على التفاصيل لا يعني التنازل عن العناوين العريضة، التي يجب أن تحكم أي عملية تفاوضية، مع ما يعنيه ذلك من أن الحكم في المسائل الخلافية، أي في الاختلاف بوجهات النظر، هو الدستور وليس أي أمر آخر. فطالما أن الدستور محترم من قبل الجميع فإن إمكانات التفاهم والتوافق تبقى قائمة. أمّا إذا أراد أحد، أيًّا يكن، تجاوز النصوص الدستورية لغايات في نفس يعقوب فإن كلامًا آخر سيسمعه الأقربون والأبعدون.
فالإيجابية مطلوبة من الجميع من دون استثناء، وهذا ما بدا واضحًا منذ اللقاء الأول بين رئيس الجمهورية والرئيس المكّلف، وهذا ما بدا واضحًا أيضًا من خلال كلام النائب باسيل بعد لقائه الرئيس ميقاتي في يوم المشاورات النيابية الطويل، حيث قال أن «التيار الوطني الحر» لن يتدّخل في عملية تأليف الحكومة، وأنه سيمنح الثقة على أساس التشكيلة الحكومية.
متابعون لمسألة تشكيل الحكومة يقولون إن الكلام الجميل والمعسول وحده لا يكفي، وقد سبق أن سمع اللبنانيون مثله كثيرًا. المطلوب ترجمة عملية لمفاعيل الكلام الإيجابي، والمطلوب أيضًا أن تُحصر عملية التأليف بين رئيس الجمهورية وبين الرئيس المكّلف وحدهما دون سواهما، وهذا لا يعني عدم التشاور مع جميع الأفرقاء السياسيين المعنيين، وعدم الوقوف عند مطالب الناس.
فالحكومة الآتية، ويُعتقد أن تشكيلها سيكون سريعًا وفق المعطيات الأولية، ستكون حكومة الناس، حكومة الجائعين، حكومة الذين بدأوا يفقدون الأمل بوطنهم وبدولتهم والمسؤولين فيها، حكومة المقهورين والمظلومين، حكومة العدالة الاجتماعية، حكومة شهداء انفجار المرفأ، وأخيرًا وليس آخرًا حكومة الأمل بغد جديد.
copy short url   نسخ
30/07/2021
618