+ A
A -
كتب أكرم الفرجابي
أصبحت «?السوشيال ميديا» بمثابة «?سلاح بلا ترخيص» يستخدمه الجمهور على كل ما لا يوافق هواه، بالرغم من أنها إحدى الوسائل التي تهدف في الأساس إلى معرفة الرأي الآخر، عبر إرساء ثقافة الحوار البناء، لكن الأمر بات غير ذلك تماماً، بعد ما كشفت منصاتها عن قصور الرؤية لدى الغالبية العظمى من جمهورها وروادها.
وبحسب تصريحات خبراء ومختصين لـ الوطن، فإن هذه المنصات تشهد تدنيا غير مسبوق في مستويات الحوار، ففي الكثير من القضايا الخلافية يتسم الحوار بالحدة، والقطع، وعدم تقبل تفهم الآخر، وعادة ما يتم حرف مسارات الحوار من خلال شخصنة الأمور والابتعاد عن جوهر القضية التي تتم مناقشتها، فضلا عن استخدام الشتائم والسباب، وهو ما يدمر فكرة الحوار العقلاني والبناء الذي يراد منه أن يصل بالناس إلى القواسم المشتركة.
التنمر
بداية، يقول الدكتور أحمد عبد الملك، أستاذ الإعلام المشارك بكلية المجتمع: للأسف كما هو المفهوم الاستهلاكي، لكلّ ما هو جديد ووافد من الغرب والدول الصناعية، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي منصة خصبة للتنمّر والبطولات الواهمة، ولأن المجتمع العربي لم يتعلّم لغة الحوار السليم كمنهجِ حياة في أغلب الدول وهو يُؤثر «الأنا» المُتضخّمة على الآخرين ويستثمر الوضع الاجتماعي أو الوظيفي أو التخفّي اللا مسؤول في الدخول في خصومات غير ذات نفع للصالح العام، فإننا نشهد اليوم بعض المتداخلين الذين لا يفهمون ماذا يقصد المُغرّد الذي قد يفوقهم عقلاً وسناً وعلماً؛ فيلجؤون إلى استخدام لغة التَنمّر و«الأنا» المتضخّمة، دونما اعتبار للواقع الاجتماعي، وبعضُهم يتجاوز حقوق الإنسان و«ذرابة» الأدب في التعبير عن رأيه، وإن كان ذاك الرأي ناقصاً وغير ناضج!؟
ويشير د. عبد الملك إلى أن هنالك رؤية ضبابية و«جاهلة» لأصل وجود أدوات التواصل الاجتماعي، فبعضهم يراها سداً للفراغ الذي يعيشه، والآخر يرى أنها تُسجّل حضوراً اجتماعياً، وفريق آخر يرى فيها مساهمة في الحراك المجتمعي؛ كل حسب بيئته وثقافته وحالته النفسية!؟ فالشاب الذي نشأ في بيئة كلها أوامر وحالات قمع وتسفيه لرأيه، لا يمكن أن يلتزم برزانة الحوار، وحق الآخرين في قراءة رأي مستنير وعاقل، لأن هذا الشاب يريد الانتقام من حياته السابقة!؟
وأضاف: من المفترض أن تُستخدم هذه الأدوات في بث ثقافة الحوار المجتمعي، وتقريب وجهات النظر، وإفادة المتواصلين بالكلمة الطيبة، والرأي السديد، والمعلومة الصالحة والنافعة، ولكن للأسف، ما نشهده هذه الأيام لا يسير في هذا الاتجاه: حالات غضب، وعنف، ورفض للآخر، بل ويصل الأمر إلى تسفيه آراء الآخر، دونما حق أو اعتبار للقيم الاجتماعية والإنسانية، ناهيك عن اللغة المتواضعة التي نراها تُستخدم عبر هذه الأدوات، ما يُقوّض جهود المربين في تعليم اللغة السليمة ونقل المعلومة المفيدة.
ويؤكد د. عبد الملك أن هنالك قصورا في الرؤية، وهذا ناتج عن الحرية غير الملجومة التي تتوفر على أدوات التواصل، وعدم وجود مرجعية قانونية لذلك، باستثناء حالات القذف أو التنمّر الواضح والمثبت. نعم هنالك من يحمل «الحراب» و«السيوف» دونما وعي أو إدراك، من أجل إبداء رأيه حتى لو كان هذا الرأي غير صالح للاستخدام الآدمي!؟ وبعضهم يعتقد أن صاحب الرأي العاقل، أو ناقل المعلومة المفيدة أكبر منه شأناً وقوة حجة، فيقوم بالهجوم غير المبرر عليه، بل و«يُجهز» عليه بتلك الأسلحة، خصوصاً هؤلاء المتخفين وراء الحسابات المستعارة التي لا تنم عن ظاهرة صحية في القرن الواحد والعشرين.
تصفية الحسابات
من ناحيته، أوضح الدكتور خالد آل شافي، أستاذ الإعلام والاتصال المساعد بجامعة قطر، أنه في ظل التطور التكنولوجي وظهور منصات التواصل الاجتماعي المختلفة وانتشارها على نطاق واسع بين المجتمعات، أصبح جليا وواضحا قلة الاستفادة من أكثر الموضوعات التي تطرحها هذه المنصات، وهنا لا بد من التركيز على القيمة الفعلية المضافة وملاءمتها للمجتمعات والأفراد، بالنظر إلى الفكرة الرئيسية من قيام الشركات العالمية المناطة بهذه المنصات، نجد أن هناك بعض التصريحات التي تفيد بأن الهدف من إنشائها محاولة السيطرة على الأفراد بحيث أصبحت مثل الإدمان، وهذا كان تصريحا مباشرا لأحد مسؤولي هذه الشبكات.
ويقول د. آل شافي: بالرجوع إلى أهم الموضوعات التي تطرحها حاليا في منصاتها، وهنا أتحدث عن المنصات العربية بشكل خاص، نجد أن أغلبها لا يستفاد منها بل تدخل في التسريبات والإساءات وغيرها من تصفية الحسابات بين أفراد المجتمع بعلم أو بتوجيه من جهات مختلفة، والشاهد في الأمر أن معظم وسائل التواصل الاجتماعي لا تحمل أي مضامين أو أفكار يمكن التعويل عليها والاستفادة منها لأفراد المجتمع، ولنا في بعض القضايا المحلية أو الإقليمية مثال، حيث إن وسائل التواصل الاجتماعي أريد بها ذكر مواقف وملاحظات وخواطر، ولكن تحولت إلى مشاحنات بين أفراد المجتمع، مما جعل منها مصدرا غير معلوم، ولا يعتد به في الأخبار الرسمية ما لم يكن حسابا لإحدى المؤسسات الرسمية. وأنا هنا من باب أنني أستاذ جامعي للإعلام، أؤكد أن وسائل التواصل الاجتماعي ليست حقيقة هي الإعلام الجديد، حيث إن الإعلام يتسم بأخلاقيات للمهنة، ووسائل التواصل الاجتماعي في أغلبها كما نشاهدها اليوم لا ترقى لهذا المعنى، حيث إن مصادرها تبقى فردية ويغلب عليها طابع الرأي الشخصي أكثر من المهنية.
وأضاف د. آل شافي: لنكن صادقين مع أنفسنا، فإن وسائل التواصل الاجتماعي تشكل اليوم مكانا كبيرا في المجتمع، وفي الوقت نفسه أصبحت تتداعى مكانتها رويدا رويدا بسبب ضعف المحتوى، ولا ننسى فكرة الإعلانات التي أصبحت الشاغل الوحيد لأغلب من يستخدم هذه الوسائل، حيث تشاهد الطرح يختلف من هنا وهناك للوصول إلى أكثر مشاهدات ومتابعين حتى يقوم بالعمل التجاري والذي كان هو الهدف من استخدام هذه المنصات، كما أن تنوع المنصات الاجتماعية يقلل من جذبها للجمهور على اعتبار أن العامل التجاري هو المسيطر. ومع إدراك المجتمع الذي نلتمسه حاليا في الردود، نؤكد أن هذه المنصات لن تدوم طويلا، لأن الهدف ليس ثقافة الحوار الهادف البناء واختلاف الآراء حوله، فالإعلام التقليدي يمر بمرحلة ركود، وأخص بالذكر هنا الصحف الورقية، ولكن بالنظر إلى المكانة الكبيرة التي شكلتها هذه الصحف في تكوين الرأي العام، أجزم بأنها مرحلة كغيرها وستمر، وستسترد الصحف الورقية عافيتها في ظل المناخ الديمقراطي الذي تعيشه قطر الخير، تحت القيادة الرشيدة لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، مؤكداً أن الإعلام هو السلطة الرابعة، وهو المشكل الرئيسي للرأي العام بالدولة. ومع التطورات المتلاحقة بالعالم، أعتقد أن الإعلام سيواكب هذا التطورات، وسيبقى رقما صعبا رغم الظروف التي يمر بها.
الاغتيال المعنوي
من جهته، يرى الدكتور محمد الراجي، الباحث بمركز الجزيرة للدراسات، أن الاغتيال المعنوي أو الاغتيال الرمزي، الذي يستهدف الأفراد وأيضا الجماعات والمؤسسات والدول، ليس ظاهرة جديدة في سياق الاتصال الإنساني والمؤسسي، وإنما كانت أشكاله وأساليبه وأدواته تبرز وتتشكَّل بحسب النظم الاجتماعية والسياسية في كل مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني. وسنجد جذور عملية الاغتيال المعنوي التي تقوم على التشهير والتصفية الرمزية -من خلال التشويه والشيطنة والتنمر وخطاب التحريض والكراهية وبث الاتهامات الباطلة والشائعات وفبركة الأخبار- في النشاط الاتصالي الدعائي الذي يهدف إلى التأثير في سلوكيات الآخرين لتشكيل المدركات والتلاعب بالأفكار والآراء والاتجاهات والمعتقدات بوسائل غير منطقية، وسنجده أيضًا في الحملات الإعلامية الممنهجة للإضرار بسمعة الأشخاص أو الجهات والمؤسسات والدول، والتي تسعى (الحملات) إلى صناعة صورة نمطية سلبية عنها كما يحدث في بعض الأزمات والصراعات السياسية الإقليمية والدولية.
ويضيف د. الراجي أن ظاهرة الاغتيال المعنوي اليوم، لا سيما في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أخذت أبعادا مختلفة أكثر خطورة، باعتبار خصوصية المنصات نفسها التي تسمح للأفراد بامتلاك وسائلهم الإعلامية، في إطار ما يُسمّى بالإعلام الفردي أو إعلام الأفراد، للتعبير عن آرائهم وأفكارهم، مُتحرِّرا من قيود أو سلطة شبكة الحراس التي تتحكَّم في الحلقات الاستراتيجية لعملية الاتصال والسيطرة على سلاسل الإنتاج، وهو ما يفسح المجال واسعا لممارسات وسلوكيات اتصالية منْفلتة؛ تتجاوز حدود التعبير عن الرأي والأفكار والنقاش العقلاني، الذي يستند إلى الضوابط والقواعد الأخلاقية المرعية. وتعتمد هذه السلوكيات أساساً خطاب التشهير بالآخر، سواء عبر التجريح والتشويه والقذف والسب والشتم، أو قلب الحقائق وترويج الاتهامات الباطلة والأخبار الكاذبة.. إلخ، وهنا يركز الاغتيال المعنوي أو الرمزي على الذات الفردية للشخص وخصوصيتها، أو الذات الجماعية، أو سمعة المؤسسة، أو مكانة الدولة، فيحاول القائم بالاغتيال المعنوي شَخْصَنَة الاختلاف، بدل مناقشة الأفكار والآراء والأداء والبرامج، وذلك بغرض تصفية الجهة المستهدفة معنوياً، وإبطال تأثيرها وإلغاء وجودها بكل ما أوتي من الوسائل والأدوات، وهو ما قد ينتهي بتصفيتها المادية، والشواهد كثيرة في هذا الباب.
ويوضح د. الراجي أن آثار الاغتيال المعنوي تستفحل وتزداد خطورتها في إطار ظاهرة الذباب الإلكتروني والجيوش الإلكترونية التي يتم تعبئتها وتجنيدها تحت مظلات أمنية واستخبارية لصناعة الحشود والاستقطاب في سياق البيئة الرقمية، من أجل تشكيل صورة معينة حول الأشخاص والرموز وحتى الدول لتتساوق مع الأهداف الاستراتيجية لهذه المظلات، فتحاول محاصرة آرائها وأفكارها وسياساتها والإضرار بسمعتها وتحطيم صورتها، وخلق ردود أفعال أو تحديد تصرفات وسلوك المستخدمين تجاه هؤلاء الأشخاص والرموز والدول، بل وتحديد قواعد الحياة الاجتماعية للتعامل مع الأشخاص المستهدفين والأطراف التي يختلف معها القائم بالاغتيال المعنوي، وهو ما يشير إلى دور هذه الوسائل والوسائط في اصطناع الواقع السياسي والاجتماعي وتأثيرها في تشكيل الرأي العام، مما يجعل أخلاقيات استخدام هذه الوسائل مسألة إشكالية ومعقدة في فضاء سيبراني عابر للحدود ومتجاوز لأدوات الضبط والتحكم؛ تسمح بنيته التقنية بهويات متعددة تساعد على نشر ثقافة الاغتيال الرمزي التي تغذي الاحتراب المجتمعي.
القواسم المشتركة
من جانبه، يؤكد الدكتور وائل عبد العال، أستاذ مساعد في قسم الإعلام بجامعة قطر، أن الأصل أن الاختلاف بين الناس أمر طبيعي، وأن هذا الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، وأن الحوار البناء ومقابلة الفكرة بالفكرة والحجة بالحجة لهو أبهى الصور الحضارية التي تعكس التنوع الطبيعي في المجتمعات، لكننا على ما يبدو أمام مشهد مختلف، إذ تشهد منصات التواصل الاجتماعي تدنيا غير مسبوق في مستويات الحوار، ففي الكثير من القضايا الخلافية يتسم الحوار بالحدة والقطع وعدم تقبل تفهم الآخر، وعادة ما يتم حرف مسارات الحوار من خلال شخصنة الأمور والابتعاد عن جوهر القضية التي يتم مناقشتها، فضلا عن استخدام الشتائم والسباب، وهو ما يدمر فكرة الحوار العقلاني والبناء الذي يُراد منه أن يصل بالناس إلى القواسم المشتركة.
وأوضح د. عبد العال أن شبكات التواصل الاجتماعي منبر حر للجميع، من أجل التعبير والتواصل ومساحة للرأي والرأي الآخر، ولا ينبغي أن تكون سيفا مسلطا على كل من يحمل رأيا أو فكرة مختلفة طالما أنها ضمن السياق وتراعي خصوصية المجتمعات، لافتاً إلى أنه في الحوار لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة، وفي الحوار ليس هناك أبيض وأسود فقط، دائما هناك مساحة مشتركة بين المتحاورين، وهذا يساعد الأطراف على الوصول إلى الفكرة، لأن بواكر الحقيقة دائما تظهر من خلال اختلاف الأفكار، وعندما يتم تنحرف بوصلة الحوار وينتقل الناس إلى شخصنة الأمور والنزول إلى مستوى الشتائم والسباب، فالإضافة إلى حرف الموضوع عن مساره، فإن هذا يتسبب في أذى شديد إلى أصحاب الرأي المخالف، وربما إلى اغتيال معنوي إذا كان الأمر يتعلق بشخصية عامة مثلا!
copy short url   نسخ
25/06/2021
771