+ A
A -
د. سعد ناجي جواد
كاتب وأكاديمي عراقي
منذ سبعينيات القرن الماضي انتشر بشكل واسع هتاف خص به رؤساء وقادة عرب كثر يقول (بالروح بالدم نفديك يا رئيس أو يا قائد).
لم أستسغ هذا الهتاف منذ اللحظة الأولى وذلك لسببين: الأول أني شعرت أن رائحة الدم والعنف تفوح منه، واعتبرته لا يأبه بل لا يحترم النفس البشرية الكريمة. والسبب الثاني أن إحساسي كان يقول لي إنه هتاف كاذب وغير حقيقي، وأن من يقوله أو يصدح به إما جاهل أو منافق، بدليل أن كل الذين هُتِفَ لهم بهذا الهتاف، ذهبوا ولم يفدهم أحد بروحه أو بدمه. وكل الأعداد الكبيرة التي كانت تصرخ به كانت تتبخر عندما يجد الجد.
وظل شعور الانزعاج يراودني عندما أسمع هذا الهتاف مع بداية انتفاضة الأقصى الأخيرة. لقد شعرت ولأول مرة أن هذا الهتاف (بالروح بالدم نفديك يا أقصى) كان صادقا ونابعا من قلب شباب ومرابطي القدس الأبطال، وأنه كان مقرونا بالرغبة الحقيقية في أن يفتدوا الأقصى بأرواحهم ودمائهم. طربت له ودمعت مقلتاي وأنا أشاهد أبناء حي الشيخ جراح وأم الفحم وأبناء القدس بل وكل فلسطين يقفون عزلا، إلا من تصميمهم وإرادتهم الفولاذية، مدافعين عن الأقصى وحي الشيخ جراح، متحدين جيش الاحتلال المتغطرس والمدجج بأحدث الأسلحة.
ما يفرح أكثر هو وقفة فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة والتي لم تكتف بتحذير حكومة الاحتلال من مغبة استباحة الدم الفلسطيني، بل قامت بكل ما هو مطلوب لجعلها تتراجع وتؤجل مصادرة أراضي حي الشيخ جراح أولا، وتوقف المناورات الحربية الكبيرة التي كانت تزمع القيام بها لإرعاب الفلسطينين عامة وحركة المقاومة خاصة ثانيا، والأهم جعلتها (الحكومة الصهيونية) تنسحب من المسجد الأقصى وتفك الحصار عنه ثالثا. ووقفت قوات الاحتلال عاجزة ومتفرجة، بل ومنبهرة، وهي تشاهد المئات من شباب القدس وهم يصلون صلاة الفجر في المسجد الأقصى، اليوم قبل الأخير من شهر رمضان المبارك، ورغم كل القسوة التي استخدمتها القوات الصهيونية والقنابل الصوتية والدخانية والمسيلة للدموع، ورغم هجمات المستوطنين المدعومين من القوات الإسرائيلية. هل هناك إصرار وإثبات ودليل أكبر وأفضل على حقيقة أن هولاء الشباب يعنون ويقصدون ما يقولون وأنهم مستعدون لفداء الأقصى والقدس بأرواحهم ودمائهم؟ أما صواريخ المقاومة التي انهالت على المدن والبلدات الفلسطينية المحتلة، وبالذات على تل أبيب ولأول مرة منذ الإعلان عن قيام هذا الكيان الغاصب، فلقد أثبتت أن المقاومة أنها أصبحت ترفق تحذيراتها بالفعل الحقيقي وليس بالأقوال فقط، ولأول مرة أيضا تضطر إسرائيل لغلق مطاراتها الرئيسية وتحول الرحلات القادمة إليها إلى قبرص واليونان.
ما يجري في فلسطين المحتلة أثبت ويثبت يوما بعد يوم المقولة التاريخية (ما ضاع حق وراءه مطالب)، وأن المقياس والمعيار الحقيقي والصحيح من مسألة احتلال فلسطين يظل ويبقى الموقف الشعبي العربي. ومهما هرول المهرولون وانبطح المنبطحون ستبقى الغالبية العظمى من الشعب العربي رافضة للاحتلال الغاصب ولكل خططه لتهويد أو صهينة المنطقة.
الحقيقة الأخرى المهمة التي أثبتتها الأحداث الأخيرة أن الموقف الدولي، ومهما صدر من تصريحات رسمية عن حكومة الولايات المتحدة والدول الأوروبية مؤيدة للاحتلال و(حقه للدفاع عن نفسه)، إلا أن الانزعاج الدولي من الغطرسة الأسرائيلية، ومن محاولات إثارة المشاكل عن طريق محاولة نزع ملكية الأراضي الفلسطينية أو بناء المستوطنات في المناطق العربية، كان واضحا جدا.
من جانبها رفضت المقاومة الفلسطينية الحديث عن هدنة وقابلت التصعيد بالتصعيد، على الرغم من قسوة الغارات الجوية الإسرائيلية واستهدافها البنايات والمناطق السكنية. كما امتدت الانتفاضة الشعبية إلى مدن جديدة وبلدات أخرى، أهمها اللد وعكا وأطراف تل أبيب، تضامنا مع مرابطي القدس وأبناء غزة. وهكذا فإن محاولات نتانياهو للخروج من أزمته السياسية الخانقة عن طريق إشعال حرب مع غزة ومع سكان القدس ومصادرة أراضيهم قد انعكست سلبا عليه.
يحق لنا أن نعتبر هذه الانتفاضة ورد المقاومة الفلسطينية البداية الحقيقية للمقاومة الفلسطينية، وأن ما بعد هذه المنازلة لن يكون كما كان ما قبلها.
لكوكبة الشهداء الذين راحوا فداءً لفلسطين وللقدس لحد اللحظة الرحمة وجعل مثواهم الجنة، والشفاء العاجل للجرحى والمصابين، وجزاهم الله أعظم الجزاء عن مواقفهم البطولية التي أعادت للأمة وللشعب العربي بعض الأمل والثقه بالنفس. وإن ينصركم الله فلا غالب لكم.
رأي اليوم
copy short url   نسخ
14/05/2021
316