+ A
A -
سمير الزبن كاتب فلسطيني
يمكن استخدام مصطلح «الثقافة» في طيف واسع من المعاني، إلى درجة يمكن اعتبار المصطلح ذاته مطاطاً ومائعاً. لذلك، يمكن النظر إلى الثقافة بوصفها طيفاً بين حدَّين متطرفين أو نظرتين متناقضتين، ويمكن توظيفها في سياق التطرفين.
فمن جهةٍ، يمكن اعتبار الثقافة أداة تواصل وانفتاح وتسامح مع التعدّد والاختلاف، وبالتالي أداة قادرة على صياغة المستقبل بأفق إنساني للبشر أجمعين، بوصفهم متساوين في القيمة والمكانة، ويستحقون الحياة الكريمة ذاتها، بصرف النظر عن اللون والعرق والجنس والدين والنوع. وعلى الطرف الآخر، يمكن اعتبار الثقافة منتجاً لهوية جزئية، تجمع بشراً من صفة معينة أو دين معين أو طائفة معينة أو جنسية معينة، وتقتصر نظرة المساواة على من يتشاركون هذه الهوية.
أما الآخرون المختلفون الذين ليسوا جزءاً من هذه الهوية الجزئية، فلا ينتمون إلى الدائرة الخاصة، وبالتالي هم منفصلون عن هوية هذه الجماعة، ويقبعون خارج السور الهوياتي الذي يجمعهم. وبهذه الصيغة، تتحوّل الثقافة إلى أداة انعزال، ورفع الأسوار مع الآخرين، والتعامل معها بوصفها حصناً ذاتياً، لا يُراد مشاركة الآخرين فيه.
الثقافة هي الإنسان، فهي التي تشكله بصفته كائناً مفكّراً، وهي التي تمنحه المعنى، وتقرّر نظرته إلى الحياة التي ستحكم أفعاله، من خلال تعريفه نفسه، ورؤيته إلى نمط (وقواعد) النظر إلى الآخرين أفراداً وجماعات. والقيمة الأساسية للإنسان بوصفه كائناً اجتماعياً، هي التمازجات الممكنة مع ثقافاتٍ متعدّدة تُغني الثقافة، وتعمق المعرفة بالآخر. لكن هذه القيمة الانفتاحية للثقافة ليست المقاربة الوحيدة لها. هناك المقاربة «الانعزالية» التي تشكل أسوأ طريقة لفهم الآخر.
صراعات دموية كثيرة تتغذّى على وهم هوية متفرّدة نقيّة لا يتشارك الآخرون معنا فيها. والقواعد التي يقوم عليها الحط من قدر الآخرين لا تتضمن فقط المزاعم المغلوطة، ولكن أيضاً الوهم بأن هوية مفردة يجب أن يربطها الآخرون بالشخص لكي يحطّوا من قدره. لذلك، يمكن الهوية أن تقتل، وبلا رحمة. ففي حالات كثيرة، يمكن شعوراً قوياً بانتماء يقتصر على جماعة واحدة، أن يحمل معه إدراكاً لمسافة البعد والاختلاف عن الجماعات الأخرى، فالتضامن الداخلي لجماعة ما يمكن أن يغذّي التنافر بينها وبين الجماعات الأخرى، ويجري تصعيده إلى مستوى القتل.
كذلك يمكن الثقافة أن تكون متسامحة وتضامنية، يمكنها أن تكون مخيفةً ومرعبةً أيضاً. وهناك اليوم على مستوى العالم قوى سياسية واجتماعية ترمي الفحم في مراجل مصانع الكراهية عبر العالم، وعنوانها صعود الشعبوية والعنصرية في الغرب، وإنتاج خطاب كراهية ضد الآخر باعتباره تهديداً..لا يمكن التصدّي لثقافة الكراهية بتجاهلها، كأنها غير موجودة، فهي لا تهدد أعداءها فحسب، بل وتهدّد حامليها والمجتمعات التي يعيشون فيها. ولذلك، لا بد من التصدّي لها من أجل عالم أفضل، وإلا فإننا ذاهبون إلى عالم يعمّق الكراهية، وبالتالي ينتج مزيداً من القتل.
copy short url   نسخ
08/05/2021
336