+ A
A -
نجوى بركات كاتبة لبنانية
ثمّة حجر عالقٌ في بلعومي. حجارة وحصى ودبابيس أبصق الكثيرَ منها، إنما تبقى آثارُها ويدوم صدأُها. كم ينبغي لي أن أنأى، وما هو مقدار العزلة الضرورية لكي أحتمي من هذا الوباء؟ ليس كورونا هو شاغلي. إنه وباءٌ من نوع آخر، يسمّم العقل، يُفسد الروح، أنت تصبح منبوذا بين الجميع.
أجلسُ في بيتي، ولا أهتمّ إلا بشؤوني. شؤوني صغيرة لا تُقلق أحدًا ولا صوت لها أو فحيح. شؤونٌ صغيرة جدا قد لا يُرى بعضُها حتى بالميكروسكوب.
أخيرا، مثلا، قرأت مقالةً صدمتني بخوائها. الصادم نشرها في مجلة أدبية محترمة، واحتلالها ستّ صفحات. أجل، ستّ! قيل لي إن كاتبها «طيّب»، وهو يحبّ الروائي الذي كتب عنه. قيل لي أيضا إن الكاتب المعنيّ موهوب، ويستحق هذه اللفتة الزاخرة بـ«العواطف الأدبية». نشر الكاتب هذ المقالة على صفحته، واعتداده بها مدعاة للتساؤل. المقالة التي تقول إن الكاتب موهوب يُتوقع له نيل جائزة نوبل للآداب، ولا تضيف شيئا عن مبرّرات هذا «التوقع» هي المعضلة. المقالة ليست ستاتوس على صفحة قارئ معجب لا يمتهن النقد أو الكتابة. ستّ صفحات لكي تقول فرادة الكاتب وعبقريته، دونما ذكر أي دليلٍ أو برهان، سوى انتشاره، ونيله جوائز تقديرية، وعدد أعماله المتزايد وترجمتها، وسفره إلى عدة بلدان، وعلاقته الجيدة بالداخل والخارج معا! وفي شهر رمضان المبارك، تستعر التعليقات وتقييمات المسلسلات المعروضة في هذه المناسبة، فينبري لنا من يعيّن لنا ما هو المسلسل الأفضل، أو الأكثر مشاهدةً، ومن هي النجمة الأولى من دون منازع، والنجم الأول، والسيناريو الأكمل، وليس هناك من يكتب مقالا جدّيا يتناول فيه حسنات هذا العمل ونقاط ضعفه. عناوين، عناوين، من دون محتوى، وأعمال معظمها لا يرقى إلى الحد الأدنى، وسيناريوهات ضعيفة تلوك نفسها أو تبتدع حبكاتٍ مأخوذةً من هنا وهناك، لوثةُ الانحطاط فتكت بنا، وحفلُ الجنون والتفاهة بلغ أوجَه، فيما القطارُ ماضٍ بنا إلى الوراء، عامًا إثر عام، بانتظار أن يصطدم أخيرا ويحوّلنا إلى غبار.
{ العربي الجديد
copy short url   نسخ
05/05/2021
115