+ A
A -
مصطفى البرغوثي كاتب فلسطيني
أعادت الانتخابات الفلسطينية قضية القدس إلى الواجهة السياسية، واحتدم النقاش في كيفية التعامل مع التهديدات الإسرائيلية بمنع إجراء الانتخابات فيها. ومع أن هناك إجماعاً على الرفض الحازم لاستثناء القدس من الانتخابات الفلسطينية، يبدو واضحاً وجود اتجاهاتٍ مختلفةٍ للتعامل مع المنع الإسرائيلي المحتمل، تراوح بين تأجيل الانتخابات أو إلغائها إلى الإصرار على خوضها في القدس، رغم أنف الاحتلال، بجعلها معركة مقاومة شعبية، وبنشر صناديق الاقتراع في كل أنحاء القدس، من دون انتظار إذن من الاحتلال، وتحويل تعدّيات الاحتلال عليها إلى فرصةٍ لإدانة (وفضح) ممارسات الحكومة الإسرائيلية ضد الديمقراطية والحقوق الفلسطينية عالمياً، وبذلك تحرم إسرائيل امتلاك حق النقض (الفيتو) على الانتخابات الفلسطينية عبر منعها في القدس.
الإصرار الفلسطيني على عدم استثناء القدس أمر مبدئي، ليس فقط لأن الاستثناء يعني التخلي عن القدس عاصمة أبدية للشعب الفلسطيني وعن مكانتها ومقدّساتها، بل أيضاً لأن هذه المعركة تدور بعد إعلان «صفقة القرن» ومحاولات إسرائيل، بموافقة أميركية، تكريس ضم القدس وتهويدها، والاعتراف بها «عاصمة موحدة» لإسرائيل، وخصوصاً بعد أن نقلت السفارة الأميركية إليها، وشرعت دول بالعلاقات مع إسرائيل في إطارها.
لكن معركة القدس أكبر من قضية الانتخابات، فهي معركةٌ مفتوحةٌ تجري منذ النكبة عام 1948، أكثر من خمسين عاماً منذ احتل الجيش الإسرائيلي الجزء الشرقي منها عام 1967، ومنذ أعلنت إسرائيل ضمّ المدينة لإسرائيل في مخالفةٍ لكل القوانين والشرائع الدولية. المعركة تدور من بيت إلى بيت، ومن حيّ إلى حيّ، بين الشعب الفلسطيني والمقدسيين البواسل الصامدين في مدينتهم من جهة، وحكام إسرائيل والحركة الصهيونية التي تحاول بالقمع والتنكيل والمصادرة وهدم البيوت وحرمان الفلسطينيين رخص البناء، واستخدام الأموال لتسريب بعض العقارات، تهويد المدينة وتزوير تاريخها.
والمعركة تدور عبر محاولات حثيثة لممارسة تطهير عرقي تدريجي لسكان المدينة الفلسطينيين، بفرض صفة المواطنة المؤقتة عليهم في مدينتهم منذ وقع الاحتلال، ومن ثم طردهم من مدينتهم، ومنعهم من الإقامة فيها إن اضطروا إلى مغادرتها للدراسة أو العمل.
والأخطر من ذلك ما يجري من عمليات سلب حق المواطنة ومصادرة الهوية من آلاف المقدسيين الذين يضطرّون إلى العيش خارج حدود المدينة، بسبب منعهم من الحصول على تراخيص البناء، أو بسبب حاجتهم للعيش مع أفراد عائلاتهم الذين لا يملكون هويات مقدسية.
تشمل الهجمة الإسرائيلية على الفلسطينيين كل مقدسي، بإجباره في كل عام على إثبات وجوده ووجود عائلته بوثائق لا تُعد ولا تحصى، وبأساليب بيروقراطية تعجيزية، مصمّمة لترحيل الفلسطينيين في إطار التطهير العرقي التدريجي، ويشمل ذلك منع الأزواج الفلسطينيين من العيش معاً، إن كان أحدهم يملك هوية مقدسية، والآخر يحمل هوية الضفة الغربية، ولو كانت المسافة بين سكنيهما بضعة كيلومترات، فجمع شمل العائلات في القدس معقد ومكلف وصعب للغاية، وإن تجرّأ من يحمل الهوية المقدسية على العيش مع زوجته، أو كان خارج حدود القدس، فسيفقد هويته المقدسية وحقه في المواطنة والعيش في مدينته التي عاشت فيها عائلته مئات وربما آلاف السنين.
والمعركة على القدس تجري يومياً من خلال محاولات إسرائيل لجرّ دول إلى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارتها إليها، وتصدي الفلسطينيين لتلك المحاولات.. وتبدو واضحة في المقاومة الشعبية الفلسطينية الباسلة التي شهدنا واحداً من أروع صورها عندما تصدّى المقدسيون عام 2017 لمحاولات نتانياهو لنصب البوابات الإلكترونية على مداخل المسجد الأقصى، فأجبروه على إزالتها بمظاهراتهم التي بدأت بالعشرات، ووصلت إلى عشرات الآلاف، واستمرت أسابيع حتى تحقق المطلب الفلسطيني.
المعركة تدور من خلال الصمود الرائع لمئات آلاف المقدسيين في مدينتهم وصلابتهم في احتمال كل أشكال الضغط لفرض الأسرلة عليهم، ومن خلال النشاط الشعبي التطوعي من إسعاف الجرحى إلى تنظيم الفعاليات الثقافية والفنية، ومن خلال ترميم بيوتهم، وتحدّي الاحتلال بالبناء على الرغم من القيود، وبالنشاط السياسي والكفاحي المقاوم لكل إجراءات الاحتلال.
المعركة على القدس لا تقتصر على موضوع الانتخابات، وإن كانت هذه توفر فرصة كبيرة لتحدّي إجراءات الاحتلال، وتصعيد المقاومة الشعبية ضدها، فالقدس هي عنوان النضال الفلسطيني ومقياس نجاحه، وعنوان المستقبل الفلسطيني برمته. ولذلك، يجب أن يستمرّ إسناد نضال الفلسطينيين وصمودهم فيها ويتطور قبل الانتخابات وبعدها، وأن يكون هدفاً لنشاط كل فلسطيني وفلسطينية، ولكل من يساند نضالهم العادل.
{ العربي الجديد
copy short url   نسخ
19/04/2021
323