+ A
A -
بقلم - سهام جاسم
كانت الساعة تشير بعقاربها إلى الرقم 8 مساءً، إذ يبدو الكاتب خالد ببجامته الشتوية الداكنة رجلا وسيما يقارب الستين من العمر، قمحي اللون بعينين يتغطى جفناهما بطبقة من الجلد، ويُقال إنّ أصحاب تلك العيون على قدرٍ من الدقة والحذق والقدرة على التحليل، أمّا شعره فقد تحوّل إلى مزيج متدرج بين اللونين الرمادي والأبيض بتموجاته الناعمة المبعثرة في كل اتجاه، هذا ما يبدو عليه المفتونون بالفن والأدب عادة، ولا أدري ما الذي يُبعثر شعرهم على هذا النحو.
لقد أنهى كتابة مقدمة سيرته الذاتية (قالـوا) للتو فقط، فهي آخر صفحة ينجزها في عمله الأدبي، أصبح الكتاب جاهزاً للإرسال إلى دار النشر، لقد اتفق مسبقاً مع إحدى دور النشر الكبرى في مدينته، وكان السيد أحمد -مدير الدار- مرحباً جداً بخالد وبكتابه في أول محادثةٍ جرت بينهما، فالساحة الثقافية في مدينته في حال ركود شديد ورتابة ولا طائرَ فينيقٍ ترتجيه لديها ليفيقَ منفضاً طبقات الرماد المتراكمة التي تُغطيها.
ضغط على «Sent» لقد بعث ملف السيرة الذاتية كاملاً بعد تدقيقه عبر البريد الإلكتروني، لم ينتظر مدير دار النشر ثانية واحدة، إذ سرعان ما قام بالاتصال به.
- أهلاً كاتبنا لقد وصلني الكتاب وسنشرع في إعداده للطبع، وبإذن الله سبحانه وتعالى سنحاول الانتهاء من مراجعته وتدقيقه وجميع مراحل الإعداد الفنية في نهاية هذا الشهر.
- على بركة الله أتمنى أنْ يجدَ الكتابُ صداه.
- ماذا؟ أنت تتمنى ذلك اعتبر نفسك قد سمعت صداه منذ اللحظة، يكفي أنها سيرة أهم صحفي في هذا البلد.
- أشكرك يا أستاذ أحمد هذا من ذوقك الرفيع.
- لتعلم أنك ما زلت الأقوى تأثيراً في الساحة الثقافية وإصدارك لسيرتك الذاتية بعد مجموعة من المؤلفات القيمة أظنّها ليست بصيحة أخيرة لبجعة أقلقت سكون بحيرة بل هي بداية بداية.
انتهت بينهما المكالمة بعد سلسلة من الثناء والمدح المُتبادلين، كل واحد منهما كان ينافس الآخر في عباراته الغارقة في المبالغة، فهذه هي طريقة الانسحاب الدمثة من المكالمات.
نظر خالد إلى وجهه في المرآة، وقد ارتاحت ملامحه كثيراً بعد انتهائه من كتابة سيرته، شيئاً يشبه سيرة اعترافات لجان جاك روسو بشفافيتها أو مذكرات فتاة ملتزمة التي كانت تُخفيها كاتبتها سيمون دي بفوار، وهي تحوي كلّ ذاك المزيج في الحياة وليس بشرط أن يكونَ مثالياً، لكنّه شعر وكأنّه أنهى اختباراً شفوياً استجوَبَ فيه ذاكرته الدقيقة قُبيل كتابتها أعقبه امتحاناً تحريرياً تمثّل في هذا السرد الطويل واستحضار الوجوه والمواقف التي لم تكن عابرة قط كما يُشاع عنها، إنها شيء يشبه كتابة الروايات التي كَثُرَ كُتَابها في هذه الفترة ولكنّه لا يحبذ كتابة الروايات، وما يُدريك قد يكون أحدهم سجّل لنا سيرته الذاتية زاعماً أنها رواية..!
لكن خالد بطبعه عنيد ومشاكس ويمتلك اعتزازاً أصيلاً بالنفس وهبه لقلمه، وقد نازل الكثير من الأنداد والأضداد وهزم أجيالاً منهم لنقل إنّهم أيضاً حاولوا مشاكسته، لقد كان بعضهم كبعض الصعاليك المحترمين في الغابر من الزمن، فالصحافة تحتاج إلى المناورات الفكرية ولتلك الحوارات المتوهجة وإثارة القضايا الهامة وطرحها بذلك الأسلوب القوي الذي يعمل على بثّ الوعي ولفت أنظار الأفراد في كل المجتمعات للقضايا الهامة، فإن انطفأت فيها هذه الروح ستغدو كمنهاج مدرسي صباحي يتكرر يومياً في نفس الفصول على نحو يدعو للسأم..
وخالد لم يكُن يحب ذلك السُبات مطلقاً..
أعدّت له زوجه كوباً ساخناً من شاي الأعشاب العطرية، فقد اعتمد هذا البديل الصحي كل مساء، أقبلت عليه بابتسامتها الودودة التي تُزيّن وجهها ذا البشرة السمراء، وقد ارتدت ثوباً أحمر منطفئاً من القماش الثقيل، ولفّت قوامها الطويل المتوسط الامتلاء بشالٍ أسود كشميري تُزينه زهور حمراء تتوسط الوريقات الخضراء المطرزة البارزة.
- هل انتهيت من كل الإضافات والمراجعات؟
- نعم، ولقد بعثته وانتهى.
- تبدو مسروراً مرتاح البال وكأنّك لم تفعل شيئاً! أو بالأحرى لم تكتب شيئاً..!؟
- وما الذي فعلته عندما كتبت؟
حركت يدها بلطف كعادة النساء حين يندمجن في بداية الحديث عن أمر يحببنه..
- كل ليلة كنت أقرأ الجزء الذي تنتهي من كتابته وأنت نائم مستغرق بوداعة صبي صغير بعد أن أفرغ طاقته في اللعب والمشاجرة مع صبية الحي في الطرقات، قالتها والابتسامة لا تفارق وجهها، بل تزداد توهجاً، وهو يُعقب بلطف..
- هل استأتِ مني هذه المرة أيضاً، لأنني لم أكتب إهداء الكتاب لكِ، كما دأب الكُتّاب على ذلك: إلى زوجتي العزيزة المكافحة وأبنائي الفريدي النوع وأحفادي امتداد السلالة النادرة وجاري المثقف المزعج بوقار..! هل هذا ما تعنين أني فعلته واقترفته عندما كتبت..؟
ضحكت..
- أعرف أنني عزيزة حتى لو لم تهدني الكتاب..
- إذن ما بك؟
- لقد قرأتُ سيرتك الذاتية، وشككت في الحقيقة أنني كنتُ أعرفك جيداً طيلة الخمسة والعشرين عاماً..
- ألم أخبرك أن لا تستعجلي قراءة مسوّدة الكتاب؟ ستصلك نسختك الخاصة ومن الكاتب نفسه زوجك..
- لم أستطع الانتظار..
إنّها سيرة زوجي.. زوجي كان صريحاً!
ابتسم وهو يردُّ عليها..
- كنتُ صادقاً وصريحاً معك دائماً وما زلت، لقد أخبرتك فقط أن لا تستعجلي..
- لم أتمالك نفسي وفضولي تحديداً إن شئت كنتُ أنتظر وقت خلودك للنوم لأفتحَ جهاز الحاسوب خاصتك لأقرأ، أتدري لقد شعرتُ أنّك تشبه نفسك كثيراً عندما كنت في العشرينيات من عمرك وأنت تصفي حساباتك..
- لقد فهمت فضولك فأنتِ ككل النساء هنالك نوع من الفضول يقتنينه ولا يُفرطن به مطلقاً نحو الرجل، ولقد تفهمته جيداً هذه المرة، ما الذي يجعلك مسرورة هكذا ومتحمسة ومبتهجة بعد قراءتك لسيرتي؟
- لقد كانت سيرة عطرة..!
- وماذا أيضاً؟ أحب أنْ أستمعَ لرأيك ونقدك حتى لو كان لاذعاً..
تشجعت..
- إنه الفصل الأخير من سيرتك الذاتية، لقد تضمن توثيقاً لأقوال خصومك من الكُتّاب على وجه البسيطة، كان منها ما هو موثق لما ورد في المقالات التي هاجموك بها وما جاء شفاهة وقد عنونته بـ «من أقوالهم»!
- وما الذي وجدته في ذلك من غرابة ومدعاة للضحك يا ترى؟
- عندما قرأت هذا الفصل تحديداً ذكرني بكُتب الحكم والأمثال، إذ أنني ظننت للوهلة الأولى أني سأجد أقوالاً لسقراط أو فريدريك نيتشه أو ابن مسكويه، وإذا بك تضع آراءهم وأقوالهم فيك بكل جرأة ممهورة بأسمائهم!
وأكملت مفسرة..
وأظن أن القارئ سيندهش جداً مثلي أنك تعرض له بكل ما أوتيت من شجاعة أدبية ذاك القدح والذم الذي تعرضت له طيلة عملك في بلاط صاحبة الجلالة (الصحافة)!
ليغدو كلّ ما قيلَ فيك أمراً مُخزياً لا لك بل لهم ولجميع أولئك المدّعين الذين هاجموك في الخفاء والعلانية، والآن هم أصدقاؤك؟!
نظر إليها باعتزاز شديد، إذ تأكد تماماً أن لديه زوجة تُجيد متابعة تلك الجوانب من حياته، وترصد مكامن نشأة المعارك وكيفية نشوبها بكفاءة عالية..
- هل هذا هو انطباعكِ؟ وماذا عن بقية سيرتي..؟
- كان سرداً جميلاً ومفيداً أيضاً لتجاربك الحياتية وخبرتك، قدمته بأسلوب الصحفي النبيه الذي لا يخلو من الدقة والإثارة الذهنية، لكنني أتوقع بل أكاد أُجزم أنْ يسخط عليك أغلب الذين قالوا..!
أبقت على تلك الابتسامة الملازمة لوجهها ثابتةً كبصمة مؤكدة على أن الأمر لن يخلو من ردود الأفعال التي ستُضفي حول الكتاب نوعاً من الإثارة..
وكعادة خالد لا يحب أن يتركها وهي متأكدة من توقعاتها..
- أنتِ مشاغبة بطبيعتك، وتحبين متابعة تلك المعارك الصحفية التي تنشب بين الحين والآخر، لذا أنتِ متحمسة بهذا القدر، وتضعين مثل تلك التوقعات، بل أشعرُ أنّك تحبين ذلك الإحساس القديم بي أنني مشاكس «زوجي صحفي مشاكس»! يا للفخر والروعة أمام الصديقات..!
- طبعاً ! ولكنك لست مشاكساً من ورق..
مرّت الأيام، بل مرّ ما يُقارب الشهر، وأخيراً تمّت طباعة الكتاب بغلافٍ فاخر كلاسيكي التصميم، عكف خالد تلك الليلة على كتابة عشرات الإهداءات وحمل جزءاً كبيراً منها لمكتب البريد وأرسل كلّ تلك النُسَخ إلى كافة المدونة أسماؤهم في الفصل الأخير من كتابه «من أقوالهم» واعتمد صيغة واحدة في الإهداء كانت كالتالي:
إلى أعزائي كل الذين قالوا..
هأنذا لم أقلْ شيئاً بعد، ولكن من حق القلم أنْ يروي ويقول ويُخبِر
خالد محمد
لم ينسَ خالد الإعلان عن كتابه في الصحف، وبعد عدة أيام من إرساله الإهداءات القيّمة لم يصمت هاتفه النقال، فالكثير من الخصوم المتحولين إلى أصدقاء تبعاً لمقتضى الحال انهمرت مكالماتهم عليه دونما انقطاع ذلك عدا الرسائل النصية، ولكنّه لم يَرُد على أيٍّ منهم..
نشطت مبيعات الكتاب في منافذ البيع، خاصة بعد تلك الإثارة التي رافقته بدءاً من عنوانه المُثير للفضول، إذ كيف يكون عنوان سيرته الذاتية «قالوا»..!
بعد مدة ليست بطويلة من الزمن، كلما قابل خالد أحد الذين قالوا صدفة رحب به ترحيباً غير اعتيادي، وأثنى على كتابه شاكراً له على الإهداء، لم يُدرِكْ سبباً لذلك غير أنّ الكتاب بانتشاره جدّد تعريف القُرّاء بهم في الوقت نفسه كان سبباً لشهرتهم وانتشارهم، ولقد وجدوا في ذلك مدعاة للسرور..
وفي أحد الأيام دعاه صديقه عبدالرحمن إلى أحد المقاهي في أطراف المدينة، عبدالرحمن صحفي من الزمن القديم تستقر كتاباته في إحدى زوايا الصحف المحلية بسكينة ووقار، تقرأ فيها مواضيع كتلك التي تجدها في دروس المطالعة قديماً، كان يمتلك أسلوباً تقليدياً مألوفاً يُذكرك بالمنفلوطي، فهو ما زال متأثراً جداً بالنظرات والعبرات، ويضع صورته وهو شاب في أعلى المقال، لكن هذا لا يمنع إعجابه الشديد بخالد وفنه الصحفي وقدرته الفذة على القضاء على سبعة بخبطة صحفية واحدة !
كان مقهىً إيطالياً مشهوراً، وقد احتسيا كوبا القهوة على أنغام الموسيقى الإيطالية التي تدفعك نغماتها للنشاط والسرور ما إن تسمعها..
- بارك الله لك في إصدارك الجديد..
- الله يبارك فيك..
- لكن بالله عليك من أين جاءتك هذه الفكرة؟ عادة عندما يُقدِم مبدعٌ ما على كتابة سيرته الذاتية، فإنه يُسهِب في ذكر فضائل النفس، وإنْ ذكر عيباً فهو صغير وبريء لا يُذكر كسيئة أمام كم هائل من الحسنات، أمّا أنت فقد حشدتهم في فصل كامل، وتركتهم فيه يقدحون ويذمون وكأنهم في مجلس واحد دون أي مقاطعة منك أو تعليق حتى..! يا أخي اسمح لي ساهمت في نشر قول السوء عنك للأسف هذا رأيي..
- لحظة! ألم يُشكلوا جزءاً خصباً من سيرتي لفترةٍ ما..؟ ألم تكن هنالك عقول في هذا المجتمع تصدق وتنطلي عليها كل تلك الترهات؟ ألا يجدُر بي أنْ أجعل المادة في المتناول لينظروا إلى أين جنح أولئك..!
ثمّ إني أريد أن أخبرك بحقيقة ما لستُ أنا الوحيد الذي قمت بتجزئة سيرته إلى جزئين، ففي الواقع جميعنا لدينا تلك التجزئة في سيرتنا مرغمين، جزء أنت ترويه وجزء متروك لذائقة أولئك الذين يقولون فيك دون أثارة من علم أو كتاب منير..!
- ولكن هنالك فئة قادرة على التمييز دون أن تستخدم هذه الطريقة..
- عدهم لي يا عبدالرحمن عد، إنْ قلوا أو كثروا فالجبن الأدبي يحيط بنا، لأن ثقافة التخلي والخُذلان الاجتماعية بدأت في التسلل يا صاح..!
أراد عبدالرحمن تدارك الأمر حتى لا يأخذ النقاش مجرىً جدلياً بائساً قد يُفسِد تلك الأمسية، فانعطف بالحديث إلى جادة أخرى..
- إذن المهم أنّك نازلت كبشهم يا خالد..؟
فردّ عليه فوراً..
- ولم أرَ من نِزال الكبشِ بُدا...!
وضحكا سويةً قبل أنْ يُودِع كلاهما الآخر...
وبعد بضعة أسابيع، انتشرت في الصحف المحلية وتحديداً في الصفحة الثقافية صورة جماعية كبيرة لحفلِ توقيع الكتاب، حيث توسط الحضور الكاتب خالد، كانت الصورة لا تخلو من الطرافة، إذ أحاط بخالد كل الذين قالوا وبدت على وجوههم سيماء الطيبة والنُبل والوئام..«إن كل الكلمات التي كتبتها بصيغة غير مباشرة متضمنة تلك الجماليات اللغوية التي أخفيت خلفها الكثير من الوجوه والمعاني كنت أعنيكم أنتم بها..!
لقد حوّلت الكثيرين منكم إلى استعارات مكنية وأخرى تصريحية فيما مضى، ثمّ هنالك الكثير من التشبيهات على اختلاف أنواعها ومنزلة المشبه من المشبه به والكثير من التورية كنت في حاجة مُلحة لها حينما أتحدثُ عن حياتي (خاصة)، ذلك الجزء منها الذي تواجدتم فيه بكثافة رغم الأزمنة المتقطعة وتباعد الأمكنة في أحيان عديدة، لكنكم ظللتم فيها وبكامل إرادتكم، لذا فمن واجبي أنْ أعرجَ عليها وعليكم فرداً فرداً.
أنْ نكون على قدر من الصراحة والصدق والشفافية..
لقد تحدثنا حول ذلك الأمر على مدى سنوات وعقود على صفحات الجرائد بقدر كافٍ، مجّدنا الصدق كثيراً، بالإضافة لما كنتم تقولونه على أنه صدق مطلق، لقد كانت تميزه هالة مجدٍ على نحوٍ مختلف..!
أعلمُ أنّ أحد القُرّاء لهذه السطور قد يشعرُ بحرجٍ ما لأنّه يدري أنني أعنيه.. يا عزيزي صدقني لست وحدك المعني، فأنا أعرف الكثير من الكاذبين والمدعين والمنافقين عداك أنت، ووجودك ضمن هذا الحشد سيخفف عنك وطأة الحرج بالطبع..!
هل أبدو في كلامي السابق فظاً..؟
أحياناً عندما تقول الحقيقة وأثناء تعبيرك عن ذلك (المكنون)، يصفونك بذلك ولا علم لي بأسبابهم، لكن لدي أقوالهم وشيئاً مما أردت أن أُخبر وأقول لقارئي في كتابي (قالوا)».
{ المؤلف خالــد محمد
copy short url   نسخ
03/03/2021
1486