+ A
A -
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
على هذا التساؤل أجاب الإمام الراغب فقال: اختلف الناس في الخلق فقال بعضهم: هو من جنس الخلقة، ولا يستطيع أحد تغييره عما جبل عليه إن خيرا وإن شرا، وقال بعضهم: يمكن ذلك، واستدل بما روي: «حسّنوا أخلاقكم» ولو لم يمكن لما أمر به، وقال أصحاب هذا الرأي: إن الله تعالى خلق الأشياء على ضربين: أحدهما بالفعل ولم يجعل للعبد فيه عملا، كالسماء والأرض والهيئة والشكل. والآخر: خلقه خلقة ما، وجعل فيه قوة ورشح الإنسان لإكماله وتغيير حاله وإن لم يرشحه لتغيير ذاته، والخلق من الإنسان يجري هذا المجرى في أنه لا سبيل للإنسان إلى تغيير القوة التي هي السجية، وجعل له سبيلا إلى إسلاسها، ولهذا قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها)، ولو لم يكن الأمر كذلك لبطلت فائدة المواعظ والوصايا، والوعد والوعيد، والأمر والنهي، ولما جوز العقل أن يقال للعبد: لم فعلت؟ ولم تركت؟، وكيف يكون هذا في الإنسان ممتنعا، وقد وجدناه في بعض البهائم ممكنا، فالوحش قد ينقل بالعادة (والتدرب) إلى التأنس ومن الجموح إلى السلاسة.
وإذا كان الخلق السيئ قد يتحول إلى خلق حسن باتباع الشرع والتدرب على الأخلاق الحميدة والمثابرة عليها، فهل يتغير الخلق الحسن إلى سيئ؟ على هذا السؤال أجاب الماوردي أيضاً، فقال: ربما تغير حسن الخلق والوطاء إلى الشراسة والبذاء لأسباب عارضة وأمور طارئة تجعل اللين خشونة والوطاء غلظة والطلاقة عبوسا، فمن أسباب ذلك: الولاية التي تحدث في الأخلاق تغيرا. وعلى الخلطاء تنكرا، إما من لؤم طبع، وإما من ضيق صدر. ومنها العزل، فقد يسوء منه الخلق، ويضيق به الصدر، إما لشدة أسف أو لقلة صبر. ومنها الغنى، فقد تتغير به أخلاق اللئيم بطرا، وتسوء طرائقه أشرا، وقد قيل من نال استطال. ومنها الفقر، فقد يتغير به الخلق، إما أنفة من ذل الاستكانة، أو أسفا على فائت الغنى. ومنها الهموم التي تذهل اللب. وتشغل القلب، فلا تتبع الاحتمال ولا تقوى على صبر، وقد قيل الهم كالسم. وقال بعض الأدباء: الحزن كالداء المخزون في فؤاد المحزون. ومنها الأمراض التي يتغير بها الطبع، كما يتغير بها الجسم، فلا تبقى الأخلاق على اعتدال، ولا يقدر معها على احتمال، ومنها علو السن، وحدوث الهرم لتأثيره في آلة الجسد. كذلك يكون تأثيره في أخلاق النفس، فكما يضعف الجسد على احتمال ما كان يطيقه من أثقال كذلك تعجز النفس عن احتمال ما كانت تصبر عليه من مخالفة الوفاق، وضيق الشقاق، وكذلك ما ضاهاه. فهذه سبعة أسباب أحدثت سوء خلق كان عاما، وهناك سبب خاص يحدث سوء خلق خاص، وهو البغض الذي تنفر منه النفس، فتحدث نفورا عن المبغض، فيؤول إلى سوء خلق يخصه دون غيره، فإذا كان سوء الخلق حادثا بسبب، كان زواله مقرونا بزوال ذلك السبب، ثم بالضد.
ويقول ابن القيم رحمه الله: ومنشأ جميع الأخلاق السافلة، وبناؤها على أربعة أركان: الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب. فالجهل يريه الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن، والكمال نقصا، والنقص كمالا. والظلم يحمله على وضع الشيء في غير موضعه، فيغضب في موضع الرضا، ويرضى في موضع الغضب، ويجهل في موضع الأناة، ويبخل في موضع البذل، ويبذل في موضع البخل، ويحجم في موضع الإقدام، ويقدم في موضع الإحجام، ويلين في موضع الشدة، ويشتد في موضع اللين، ويتواضع في موضع العزة، ويتكبر في موضع التواضع. والشهوة تحمله على الحرص، والشح، والبخل، وعدم العفة، والنهمة، والجشع، والذل والدناءات كلها. والغضب يحمله على الكبر، والحقد، والحسد، والعدوان، والسفه. ويتركب من بين كل خلقين من هذه الأخلاق: أخلاق مذمومة. وملاك هذه الأربعة أصلان: إفراط النفس في الضعف، وإفراطها في القوة. فيتولد من إفراطها في الضعف: المهانة والبخل، والخسة واللؤم، والذل والحرص، والشح وسفساف الأمور والأخلاق. ويتولد من إفراطها في القوة: الظلم والغضب والحدة، والفحش، والطيش. ويتولد من تزوج أحد الخلقين بالآخر: أولاد غية كثيرون. فإن النفس قد تجمع قوة وضعفا، فيكون صاحبها أجبر الناس إذا قدر، وأذلهم إذا قهر، ظالم عنوف جبار، فإذا قهر صار أذل من امرأة. جبان عن القوي، جريء على الضعيف، فالأخلاق الذميمة يولد بعضها بعضا، كما أن الأخلاق الحميدة يولد بعضها بعضا.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرفُ عنا سيئها إلا أنت.د. فاطمة سعد النعيمي
أستاذ التفسير وعلوم القرآن
كلية الشريعة جامعة قطر

د. فاطمة سعد النعيمي
[email protected]
copy short url   نسخ
19/02/2021
3760