+ A
A -
باريس- أ ف ب- قد لا تكون للفيروسات قدرة على التفكير، لكنها تستطيع التأقلم مع محيطها لتحافظ على بقائها، وتفسّر قدرتها هذه على التكيف والظهور المقلق لعدة نسخ متحورة وأكثر قدرة على نقل العدوى، من الفيروس المسبب لوباء كوفيد 19.
كما كل الفيروسات الأخرى، يستطيع فيروس سارس-كوف- 2 التحوّل، إذ حين يقوم بالتكاثر، تنتج بعض الأخطاء في تكوينه. وليس لغالبية تلك النسخ المتحورة أي أثر، لكن بعضها قد يمنحه قدرة إضافية على النجاة.
هذه حال النسخ الثلاث الأكثر نقلاً للعدوى التي اكتشفت مؤخراً في المملكة المتحدة وإفريقيا الجنوبية والبرازيل وظهرت خلال الخريف وعلى بعد أشهر في ما بينها، في حين لم تظهر أي نسخة متحورة أخرى ذات أهمية خلال الأشهر الأولى من تفشي الوباء.
هل يمكن اعتبار ذلك مصادفة؟
يرى خبراء أن جزءاً من المسألة يتم بشكل عشوائي، لكن الصدفة ليست السبب الوحيد خلف هذه التحولات.
وتوضح خبيرة الأوبئة في جامعة بيرن إيما هودكروفت أنه «حين نخفض عدد الإصابات، فإننا نقيد مجال تحرك الفيروس» وبالتالي احتمالات حصول تحولات إشكالية فيه.
في المقابل، وحينما ينتقل الفيروس بمستوى مرتفع، «ترتفع فرص أن يقابل الفيروس سيناريو ما أو فرداً معيناً يمكن له، وبشكل عرضي، أن يؤدي إلى أمر لا نرغب حصوله»، مشبّهةً ذلك بلعبة «روليت».
تشرح بدورها ويندي باركلي خبيرة الفيروسات في جامعة «إيمبريال كولدج» في لندن أن ظروف التحور «مزيج بين كمية الفيروس الذي يتنقل من جهة، وعدد المرات التي نرمي فيها النرد من جهة ثانية، فضلاً عن بيئة الفيروس»، والمقصود بها عالم ينتشر فيه الفيروس بشكل كبير.
وأضافت في مؤتمر صحفي «إنها اللحظة التي يجب أن نتوقع فيها ظهور نسخ متحورة متأثرة بالاستجابة المناعية وذلك لأن مستوى المناعة ضد الفيروس في العالم يرتفع من خلال الإصابات وعمليات التلقيح».
مريض نقص بالمناعة
وأشارت الخبيرة إلى أنه «في اثنين من الأمكنة التي ظهرت فيها التحورات المثيرة للقلق، أي في جنوب إفريقيا والبرازيل، كان هناك أصلاً مستوى استجابة مناعية عالٍ لدى الأشخاص الذين سبق أن أصيبوا بالفيروس وتعافوا منه».
إلا أن بعض العلماء يشككون بوجود علاقة بين الانتشار المصلي المرتفع وظهور نسخ جديدة من الفيروس.
يعتبر بيورن ميير عالم الفيروسات في معهد باستور في باريس أنه «من المرجح أكثر أن التحول يحصل داخل المريض»، لا سيما مريض يعاني من نقص في المناعة، كما يعتقد عدد من الباحثين في المتحور البريطاني.
ويشرح ميير لفرانس برس «حينما يكون مريض ما يعاني من نقص في المناعة، يمكن أن يبقى الفيروس في جسده وقتاً أطول».
وفي حين أن الفيروس المسبب لكوفيد 19 يعيش ما متوسطه عشرة أيام في جسد الفرد، إلا أن دراسات بينت أن بعض المرضى حملوا الفيروس حياً لعدة أسابيع، بل عدة أشهر بعد الإصابة.
وحتى لدى المرضى الذين يعانون من نقص المناعة، يواصل الجسد مكافحة الفيروس أيضاً دون أن يتمكن من طرده تماماً. وبمواجهة هذا «الضغط المناعي»، يرغم «الفيروس على التحول. وإما أن يتحول ويلقن نفسه كيفية الهرب من هذا الرد المناعي الجزئي، أو يموت»، وفق ميير.
ولماذا إذن لم تظهر نسخة متحورة أكثر عدوى في وقت سابق خلال الأشهر الأولى من الوباء؟
يشير الخبير إلى أنه «هنا تلعب الصدفة لعبتها»، مضيفاً «لا يعاني الكثير من الأشخاص من نقص في المناعة. ومع بداية تفشي الوباء، كان عدد الإصابات أقل، والأشخاص الذين يعرفون أنهم يعانون من نقص المناعة كانوا محميين ومعزولين».
الفوز للأقوى
وقد يختلف الأمر في المناطق حيث يوجد عدد كبير من المصابين بنقص المناعة أو ممن لا يعلمون أنهم يعانون من ذلك.
وتشرح أكاديمية الطب في فرنسا أن «ظهور متحور من سارس -كوف-2 في أغسطس في جنوب إفريقيا، إحدى أكثر الدول التي تنتشر فيها عدوى فيروس نقص المناعة البشري في العالم، قد يكون أنتج تكاثراً فيروسياً أكثر كثافة وأطول مدةً في أجساد الأفراد الذين يعيشون مع فيروس نقص المناعة البشري، ما عزز تراكم الطفرات».
ويعتبر ميير تلك الفرضية «صالحة»، رغم أنه من الصعب تحديد مصدر ظهور الطفرة بشكل دقيق.
وعلى أية حال، ومهما كانت الظروف التي سمحت بظهور طفرة جديدة، إلا أن عملية الانتقاء الطبيعي تلعب دورها.
ولخص خبير الأمراض المعدية البلجيكي إيف فان لايتيم الأمر في مؤتمر صحفي قائلاً «ما يحصل عبارة عن منافسة طبيعية يكون فيها الفوز للأفضل، للأقوى، للذي يستطيع أن ينتقل بشكل أفضل، والأكثر قدرةً على إدامة النوع الفيروسي. إنها عملية داروينية نموذجية التي تدير تطور العالم الحي».
وانطلاقاً من ذلك، يتوقع العلماء أنه من المرجح ظهور طفرات خطيرة أخرى، ما لم تكن قد ظهرت أصلاً.
ورأى أستاذ علم الأحياء في جامعة واشنطن كارل برغستروم في تغريدة أنه «ولأن العدد الإجمالي للإصابات يواصل الارتفاع بشكل مطرد، ليس من الصعب القول إن طفرات إشكالية ظهرت خلال الشتاء دون أن نتمكن من رصدها، أكثر من تلك التي ظهرت في الخريف وهي الآن تحت نظرنا»، داعياً إلى تحسين مستوى المراقبة والرصد.
وأكد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الجمعة أن نسخة فيروس كورونا المستجد المتحوّرة التي رصدت في بريطانيا ووصلت إلى دول أخرى في الأشهر الأخيرة قد تكون أكثر فتكا، إلى جانب كونها معدية أكثر.
وجاءت تصريحاته في وقت تشهد المملكة المتحدة أعداد وفيات قياسية جرّاء كوفيد 19، بعد ازدياد الإصابات والحالات التي استدعت النقل إلى المستشفيات منذ تم رصد النسخة المتحوّرة للمرة الأولى في جنوب شرق إنجلترا في سبتمبر.
كما انتشر الفيروس المتحوّر في أكثر من 60 بلدا بينها الصين، حيث ظهر الوباء قبل أكثر من عام، وفق منظمة الصحة العالمية.
وقال جونسون خلال مؤتمر صحفي في داونينغ ستريت «إضافة إلى أنه أسرع انتشارا، يبدو الآن أن هناك بعض الأدلة على أن النسخة الجديدة... قد تكون مرتبطة بدرجة أعلى من الوفيات».
وربط الوضع السيئ الذي تعيشه بريطانيا، حيث أعلن عن 1401 وفاة جديدة جراء كوفيد الجمعة رفعت إجمالي عدد الوفيات إلى 95981 (الأعلى في أوروبا)، بالنسخة الجديدة المتحوّرة.
وازدادت الوفيات جراء الفيروس بنسبة 16 في المائة خلال الأسبوع الماضي، بينما يقارب عدد الأشخاص الذين نقلوا إلى المستشفيات جرّاء إصابتهم بكوفيد ضعف ذاك الذي تم تسجيله في أسوأ أيام الموجة الأولى من الوباء في أبريل.
وقال كبير علماء الحكومة باتريك فالانس إن النسخة الجديدة قد تكون أكثر فتكا بنسبة نحو 30 إلى 40 في المائة بالنسبة لبعض الفئات العمرية، رغم أنه شدد على أن التقييم اعتمد على بيانات ضئيلة.
وأفاد خلال المؤتمر ذاته «هناك كثير من الضبابية حيال هذه الأرقام ونحتاج إلى القيام بالمزيد للتوصل إلى معرفة دقيقة في الأمر، لكنه مصدر قلق بوضوح».
وأضاف «سترون أنه بالنسبة للفئات العمرية المختلفة كذلك، هناك نوع من الزيادة النسبية في الخطورة».
مؤشرات تحسن
وتشهد بريطانيا الموجة الثالثة والأسوأ للفيروس.
وتأمل البلاد عودة الوضع إلى طبيعته في وقت لاحق هذا العام بفضل أكبر برنامج تطعيم في تاريخها بدأ الشهر الماضي. وكشف جونسون أن 5.4 مليون شخص تلقوا حاليا أول جرعة من لقاحين يتم استخدامهما حاليا، إذ تم تطعيم عدد قياسي من الأشخاص يبلغ 400 ألف في الساعات الـ24 الأخيرة. وأضاف «تواصل جميع الأدلة الحالية إظهار أن اللقاحين اللذين نستخدمهما حاليا لا يزالان فعّالين ضد النسختين القديمة والجديدة». وتبدو الحكومة في طريقها للإيفاء بتعهدها تطعيم 15 مليونا من الأشخاص الأكثر عرضة للخطر بحلول منتصف فبراير. وتسعى إلى تطعيم جميع السكان البالغين بحلول سبتمبر كأبعد حد.
وتعيش إنجلترا ثالث إغلاق شامل منذ مطلع الشهر، بينما تم فرض قيود في اسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية، حيث تتولى السلطات المحلية مسؤولية وضع السياسة الصحية.
وأظهرت بيانات «المكتب الجديد للإحصاءات الوطنية» التي نشرت الجمعة أن الأوامر التي صدرت للسكان بالتزام منازلهم ساهمت في خفض معدلات الإصابات بعض الشيء في أنحاء إنجلترا الأسبوع الماضي.
وكشفت أن شخصا من 55 أصيب بالفيروس في إنجلترا، وهو معدل وصل إلى شخص من 35 في لندن.
بدوره، حذّر كبير مسؤولي الصحة كريس ويتي من أنه على الرغم من «مؤشرات التحسّن»، لا تزال أعداد الإصابات «عند مستوى مرتفع للغاية» بينما تواجه المستشفيات خطر الإغراق.
وأعلنت الحكومة الجمعة أنها ستطلق حملة وطنية جديدة تركز على موظفي المستشفيات ومرضى كوفيد، في محاولة لتذكير السكان بالضغوط الشديدة التي لا تزال تواجه خدمة الصحة الحكومية.
وأشارت إلى أن الحملة الدعائية التليفزيونية «العاطفية» «تدفع السكان للتفكير بتداعيات أفعالهم عبر طرح سؤال: هل يمكنكم التحديق في عيونهم والقول لهم إنكم تساعدون عبر ملازمة منازلكم؟».
copy short url   نسخ
26/01/2021
490