+ A
A -
شكلت حرب البيانات التي خرجت يوم الخميس إلى العلن صورة واضحة عن التخبط والتباعد الحكومي الحاصل في لبنان، ومؤشراً دقيقاً على تراجع أي فرصة في ولادة حكومة جديدة تكون قادرة على تخطي الأزمات الكبيرة التي تمر بها البلاد. فبعد «الفيديو الفضيحة»، جاء أمس الأول دور البيانات التي خرجت عن قصر بعبدا وبيت الوسط، لتزيد «الطين بلة»، وتوقف جميع الاتصالات والمشاورات التي كانت قد بدأت لتقريب وجهات النظر.
ما بين أسطر البيانات
ففي البيان الصادر عن مكتب الاعلام في رئاسة الجمهورية الكثير من «الكليشيهات»، كما وصفتها مصادر مواكبة عن كثب للملف الحكومي لصحيفة «نداء الوطن»، لكن بين السطور ثمة «رسائل مشفّرة على درجة عالية من الدقة، موجهة إلى كل من يعنيهم الأمر على خط الوساطات الجارية لتذليل عراقيل التأليف، وأبرزهم البطريرك الماروني بشارة الراعي بأنّ عون لن يستجيب لدعوته بالاتصال برئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، وجلّ ما يمكن أن يبادر إليه هو ما جاء في البيان لناحية التأكيد على أنّ رئيس الجمهورية ليس له أن يكرّر دعوة رئيس الحكومة المكلف إلى بعبدا، ذلك أن القصر لا يزال بانتظار أن يأتيه بطرح حكومي يراعي معايير التمثيل العادل عملاً بأحكام الدستور». في حين كانت رسالة موازية لا تقل أهمية إلى «حزب الله» مفادها: لا تضغطوا على باسيل.
وتوضح المصادر في هذا المجال، أنّ حرص بيان بعبدا على الإشارة إلى أنّ «حزب الله لا يتدخل في أي قرار لرئيس الجمهورية بما في ذلك تأليف الحكومة» إنما أتى ليختزن بشكل غير مباشر رسالة مبطّنة من عون إلى قيادة الحزب بأنّ «قرار التأليف بيدي ولا أحد يمون عليّ فيه»، لافتةً إلى أنّ أوساطاً مقربة من «التيار الوطني الحر» كانت قد أبدت توجسها خلال الأيام الأخيرة من دخول «حزب الله» على خط الدفع باتجاه تليين المواقف المتصلبة لرئيس التيار في عملية تشكيل الحكومة، فجاء الرد رئاسياً بمثابة «خطوة استباقية تلتف على أي محاولة ضغط حكومية من جانب الحزب، عبر التشديد على أنّ التوقيع على مراسيم التأليف هو بيد رئيس الجمهورية وحده فلا تقربوا باسيل ولا تقرعوا بابه».
أما لرئيس الحكومة المكلف، فتأكيد متجدد على الاستمرار في مقارعة حقه الدستوري في التشكيل و«باختيار الوزراء وتسميتهم وتوزيعهم على الحقائب» وما عدا ذلك لن تبصر حكومته النور. وإزاء ذلك، لم يتأخر رد بيت الوسط على الإصرار العوني «على تبني معايير جبران باسيل في تشكيل الحكومة» برسالة مضادة من الحريري مفادها: «الحكومة بمعايير الدستور وقواعد المبادرة الفرنسية وخلاف ذلك دوران في حلبات الإنكار».
وفي هذه الرسالة، ترى المصادر المواكبة لـ «نداء الوطن» تأكيد الرئيس المكلف على أنه «ليس في وارد الاستسلام ولا الرضوخ أمام الانقضاض العوني على صلاحيات الرئاسة الثالثة» وأنه باقٍ على موقفه في «التصدي لمحاولات تحريف المادة 53 من الدستور وحرف مرامي الشراكة الدستورية بين الرئيس المكلف ورئيس الجمهورية في إصدار مراسيم التأليف، عبر بدع مكشوفة تهدف إلى فرض أمر واقع غير دستوري يطيح بالطائف ويكرّس نظاماً رئاسياً على أنقاضه».
بعبدا مصرة على شروطها
ومن هنا، فإن تطوع رئاسة الجمهورية الخميس لإعادة إطلاق الشروط المتصلبة تحت جناح «توضيحات» وردود على تقارير وتحليلات لم يكن سوى إطلالة تصعيدية متجددة لإفهام رئيس الحكومة المكلف أن دفتر العمليات لن يتبدل. واللافت هذه المرة أن أوساطا واسعة الاطلاع رجحت لصحيفة «النهار» أن تكون هذه المبادرة «التصعيدية» التي أخذتها بعبدا على عاتقها وسط انفجار أخطار جائحة كورونا في لبنان على نحو بالغ الخطورة ردة فعل انفعالية نتيجة رهان خاطئ لديها على ان الحريري بعد عودته من الخارج كان يجب ان «يصعد» إلى القصر بتشكيلة متغيرة تماما عن تشكيلته المعلقة مذ قدمها إلى رئيس الجمهورية ميشال عون بما يعني الاستسلام لشروط العهد و«التيار الوطني الحر» ولكن شيئا من هذا لم يحصل ولم تظهر مؤشرات واقعية على إمكان حصوله. ثم ان الأوساط نفسها لفتت إلى أن ردة فعل بعبدا جاءت غداة زيارة مستشار رئيس الجمهورية الوزير السابق سليم جريصاتي لبكركي حيث أشارت المعلومات إلى ان أجواء لقائه مع البطريرك مار بشارة بطرس الراعي كان سلبية، ولم يقتنع الراعي بالمبررات التي تنقل إليه والمتصلة بموقف عون من تشكيلة الحريري. وأيا تكن منطلقات الرد الرئاسي والردود عليه من بيت الوسط و«تيار المستقبل» فالواضح ان الانسداد السياسي والحكومي يبدو أسوأ مما كان عليه في الفترة السابقة وسط فداحة المشهد الصحي والانتشار الوبائي والتداعيات التي بدأت تتصاعد للاقفال وأثره على الدورة الإنتاجية والمعيشية بدليل بدء التحركات الاحتجاجية والاختراقات لإجراءات الاقفال ومنع التجول وإقفال طرق رئيسية في طرابلس وعكار وربما تتمدد العدوى إلى مناطق أخرى.
البطريرك على خط التهدئة
وسط ذلك، أشارت مصادر متابعة لعملية تشكيل الحكومة لصحيفة «اللواء» أن الجهد الظاهر الوحيد لإخراج عملية التشكيل من دائرة التعطيل، هو الذي يقوم به البطريرك الماروني بشارة الراعي، رغم كل محاولات الالتفاف والعرقلة الملتوية لهذا التحرك، والتملص من الوعود والالتزامات المقطوعة، فيما انحسرت باقي التحركات أو بقيت بعيدة من الأضواء، لتعذر قيام أي طرف محايد بأي دور أو تحرك كما كان يحصل سابقا، بسبب الخلافات المستفحلة مع بعبدا، أو لتعذر قبولها بأي دور لهذا الطرف أو ذاك. وفيما لوحظ ان البطريرك الراعي كلف المطران بولس مطر القيام بمهمة التواصل مع الرئيس المكلف سعد الحريري، بقيت نتائج هذه المهمة قيد الكتمان من كلا الطرفين، لم يعرف إذا كان هذا النهج من قبل بكركي بتكليف رجال الدين بالمهام السياسية مع الأطراف السياسيين، سيعتمد بالمرحلة المقبلة بدلا من تكليف شخصيات سياسية كما كان بالمرحلة السابقة. وكشفت المصادر أن البطريرك مستمر بجهوده وتحركاته لتحقيق اختراق جدي بعملية تشكيل الحكومة ولن يتوقف أمام محاولات إعاقة جهوده أو عدم التجاوب معها من الاطراف المعنية بعملية التشكيل، وفي كل مناسبة يرفع الصوت عاليا محددا بشكل مباشر أو غير مباشر المسؤولين، ايا كانوا عن تعطيل تشكيل الحكومة وقد يضطر إلى وضع النقاط على الحروف في كل مايحيط بعملية تشكيل الحكومة في وقت قريب جدا اذا لم تتحقق مساعي التشكيل. واذ اشارت المصادر إلى استياء بكركي من تصرفات وسلوكيات مقربين من بعبدا ودورهم السلبي بما يجري دون تسميتهم، لاحظت ان هؤلاء يحاولون إلصاق تهمة تأخير تشكيل الحكومة الجديدة بالرئيس المكلف سعد الحريري، ويسعون لتحميله زورا مسؤولية الانهيار الحاصل للتهرب من مسؤوليتهم المباشرة في اجهاض أي تحرك أو طرح، لا يصب في خانة تأمين مصالحهم الخاصة، بينما يعرف الرأي العام بمعظمه أن هؤلاء المقربين هم الذين تسلموا زمام السلطة وعملوا على تشكيل حكومة على قياس مصالحهم منذ عام وأسهموا مساهمة مباشرة في تدهور الأوضاع المالية والاقتصادية والمعيشية التي يواجهها لبنان حاليا.
حزب الله سيتحرك
وذكرت صحيفة «الأخبار» أنّ حزب الله سيستأنف مسعاه في الساعات المُقبلة للتوافق على تشكيلة حكومية. وتوضح مصادر مطلعة أنّ ما يقوم به حزب الله هو «مسعى وليس مبادرة، التي عادة ما تتضمن بنوداً عدّة، أو وساطة تكون قائمة على نقل رسائل من جهة إلى أخرى». المحاولة التي يقوم بها حزب الله «هدفها حصراً خلق ثقة ما بين الرئيس عون والحريري، بعدما تحطّمت هذه الثقة، فيما الوضع شديد الخطورة ما بين الأزمة الاقتصادية ــــ المالية ــــ النقدية والكارثة الصحية». هذه أزمات ستكون معالجتها «صعبة بوجود حكومة، فكيف الحال والبلد يفتقر إلى سلطة تنفيذية؟». وتُوضح المصادر أنّ حزب الله كان ينوي بدء مسعاه قبل إعلان البطريرك مار بشارة بطرس الراعي تحرّكه لإنتاج تسوية، «ففضّل حزب الله البقاء جانباً إفساحاً في المجال أمام الراعي. حالياً، كلّ المبادرات توقّفت ولم تصل إلى نتيجة، فقرّر حزب الله العودة إلى إطلاق المسعى، وخاصة أنّه لم يعد من الممكن التذرع بضغوط خارجية بعد مغادرة دونالد ترامب الرئاسة الأميركية، ويُفترض أن يكون الحريري قد بات أكثر تحرّراً».
وتحت عنوان: «عون ـ الحريري: غرفة ببابٍ واحد»، كتب نقولا ناصيف في صحيفة «الأخبار»: لا أحد قادراً، أو يريد الدخول على خط الوساطة بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري لإنهاء القطيعة الناشبة بينهما منذ اجتماعهما الرابع عشر في 23 ديسمبر.
أول المفترض أنه أقدر السعاة وأكثرهم تأثيراً، رئيس مجلس النواب نبيه برّي، أوصد أبواب عين التينة وانتقل إلى الجنوب لأسبوعين من الاستراحة على الاقل.
في الأيام الأخيرة لزم برّي الصمت، فلم يُسمع يتحدّث عن مصير تأليف الحكومة كأنه غير معني بها، أو يبدي استعداده لأي محاولة، عاكساً الامتعاض المجبول بخيبة الأمل، وانتظار ما قد يحدث ولا يكون في الحسبان. لم يعد ما بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري خلافاً على وجهات نظر حيال التأليف، مذ قدّم الرئيس المكلف مسودة حكومة من 18 وزيراً عشية الميلاد ورفضها رئيس الجمهورية. ما بينهما يختلط الشخصي بالموقفين العام والدستوري، والعناد بالامتناع عن ايجاد المخارج، بإزاء المأزق الحالي الذي بات أكثر ارتباطاً بضوابط فرضها الرجلان، ما يجعل من المتعذّر تجاوزها ما لم يتبادلا التنازلات أو يُفرض عليهما أمر واقع لا يسعهما تجاهله:
أول الضوابط تلك أن رئيس الجمهورية لن يتخلى عن دوره الفعلي، الدستوري، كشريك للرئيس المكلف في تأليف الحكومة، وإن اقتضى إمرار السنتين المتبقيتين في عمر الولاية في ظل حكومة تصريف أعمال. ما يعنيه موقف الرئيس أن توقيعه مرسوم تأليف الحكومة لا يتوقف على موافقته على أسماء الوزراء المسيحيين وحقائبهم، أو على حصته هو، بل الاتفاق على أسماء الوزراء جميعاً، فرداً فرداً، ما دام توقيعه يمنح التشكيلة طبيعتها الدستورية، ويتيح لها إبصار النور.
وسواء نُظر إلى هذا الاعتبار كأحد مقاييس ما بات يُدعى وحدة المعايير، أو عُدّ في صلب الصلاحية الدستورية لرئيس الجمهورية، فإن الحقيقة الجديدة المرتبطة بهذه الصلاحية، إن عون كرّس سابقة الشراكة الفعلية لرئيس الجمهورية في تأليف أي حكومة، وإن كانت هذه في مرحلتها الأولى غير الناجزة مهمة الرئيس المكلف.
لم يقل يوماً انه هو الذي يؤلف الحكومة، شأن ما أشاع الحريري مراراً كما لو ان الصلاحية مطلقة بلا قيود، أو كما لو ان أياً من الرؤساء المكلفين أسلافه منذ اتفاق الطائف، إبان الحقبة السورية وبعدها، اعتاد بمفرده على تأليفها وقصر مهمة رئيس الجمهورية على التوقيع. في نهاية المطاف من دون توقيع رئيس الدولة، يفقد الرئيس المكلف أي صلاحية تقريرية. أهمية السابقة ان أياً من رؤساء الجمهورية الذين سيخلفون الرئيس الحالي، لا يسعه بعد الآن التفريط بها أو إهمالها.
ثاني الضوابط، إصرار الحريري على التمسك بتكليفه، ورفضه الاعتذار أياً تكن وطأة الضغوط التي سيجابهها، وإن هو قبالة رئيس للجمهورية تصعب المساكنة معه. ما دام الدستور لا يقيّده بمهلة، ليس لأحد - بما في ذلك الغالبية النيابية صاحبة التفويض التي لم تجرّب - انتزاع التكليف منه. مغزى ذلك، بسبب العائق الدستوري وهو السابقة التي كرّسها قبل الحريري أسلافه ومن بعده سيرثها خلفاؤه، ان عليه ان لا يعترف يوماً بفشله في تأليف الحكومة، بل إلقاء اللائمة إما على رئيس الجمهورية غير المتعاون، أو على الكتل والقوى السياسية وشروطها.
يفترض ذلك ان كل رئيس مكلف هو صاحب حق، ليس قابلاً للتنازل. مصيب وإن اخفق، أو تكاسل في العثور على الحلول، وليس ثمة سبب يحمله عن التخلي عن هذا الامتياز. سبق للرئيس رفيق الحريري ان اعتذر مرتين عن عدم تأليف حكومة، أولى بعد تكليفه عام 1998 وثانية قبل تكليفه عام 2004، من غير ان يرى اعتذاره يمسّ طائفته، أو يتعرّض اليها ويهينها، أو نعت التكليف بأنه خطها الأحمر. مقارنة كهذه هي حتماً ظالمة للأب، لا لابن لم يكن يوماً سرّ أبيه.
ليس الجانب الدستوري فحسب ما يعني الحريري أو يتذرّع به، بل ثمة جانب شخصي لا يقل أهمية يحتاج اليه. بصفته رئيساً مكلفاً إلى ما شاء، وضع الحريري في جيبه «بطاقة تعريف» يسعه التنقّل بها لمقابلة رؤساء الدول على انه الرئيس المقبل للحكومة اللبنانية. بطاقات الائتمان التي اتسمت بها سمعة والده حيثما حلّ تبخّرت، فإذا المرشح لترؤس حكومة لبنان تعوزه بطاقة تعريف فقط. من دونها هو نائب ورئيس كتلة، كلاهما غير كافيين كي يُحتفل به حيثما يهبط. فكيف اذا كان مثقلاً بالخصومات، بلا ظهير عربي اعتاده بيته منذ الحريري الاب.
ثالث الضوابط، تبعاً لما هو منسوب إلى اوساط الرئيس المكلف، وفي الوقت ذاته يجد نفسه مربكاً، ان الخلاصة الفعلية للخروج من مأزق تعذّر تأليف الحكومة باتت تحوم من حول فكرة ما الذي يقتضي ان يقدّمه إلى رئيس الجمهورية - أو يتراجع عنه - كي يصل إلى السرايا، ما يعني تسليمه بالشراكة الفعلية لرئيس الجمهورية في التأليف.
ليست الصدمة الأولى يواجهها، وتلزمه تقديم تنازل مستحق في سبيل تكريس ترؤسه الحكومة. فعل ذلك من قبل في تشرين الأول 2016 عندما أيّد وصول عون إلى قصر بعبدا على انه السبيل الوحيد الذي يعيده هو ايضاً إلى السرايا. كان قبلاً ضد انتخابه، ثم ذهب في نوفمبر 2015 إلى نقيضه رئيس تيار المردة سليمان فرنجيه ثم استسلم أخيراً إلى الرابية. حصل أمر مشابه بنتائجه عام 2009. رغم تزعّمه الغالبية النيابية بعد انتخابات عامذاك، لم يسعه تأليف حكومته الأولى الا بعد استرضاء عون في الحقائب التي يريدها. على نحو كهذا اتسمت علاقات الرجلين بانعدام الثقة على الدوام. لكن ايضاً بالاستسلام في اللحظات الأخيرة.
اليوم يجابه الحريري اختباراً مماثلاً: ها هو في غرفة بلا نوافذ كي يقفز منها. لا باب خروج منها إلا واحداً.
copy short url   نسخ
24/01/2021
549