+ A
A -
صارَ لك سنة وأنت تنفّذ تعليمات الحجر. بتراخٍ حيناً في البداية. بتمرّد أحياناً يسبقه اختناق، في الأوساط. ولكن غالبا بانتظام مع موجات الفيروس، الصاعدة والهابطة. صارَ لكَ سنة تغلق الباب الحديدي من خلفكَ، فتأمن من الموت المُحتمل. أو أقله من مهالك الأوجاع لو نجوتَ بعد الإصابة بالفيروس.
في البداية، قلتَ شعراً بالوباء، فتغنيتَ بالسماء التي عذُبت، والهواء والعصافير وصوت الطبيعة ونسماتها.. لم تكن تتوقع أن هذه النعمة ستدوم، وتصبح يباساً بعد أن تحلّ العزلة التامة على وجودك. الآن، لم يعُد هناك من سماء ولا بحر ولا جبل ولا نهر.. ولا من فائدة من لطفها كلها. صارت مكاناً بعيداً، غريباً، خيالياً، لا يطاوله وجودك. مثلها مثل الشوارع والناس والدكاكين والمقاهي. مهجورين. فهي، أي العزلة، ليست طوعية، كتلك التي تطيب للنُّساك والشعراء والأنبياء. إنها قسرية. تفرضها غريزة بَحْتة للبقاء على قيد الحياة.
ولكن الأمرّ من هذا كله غيابك عن كبرى لحظات الحياة. في عزلتك هذه، وتحت طائلة خطر الموت، ممنوع عليك المشاركة في تلك اللحظات: لا الموت ولا الزواج ولا الولادة.. يمكنكَ الحضور إليهم. الموت خصوصاً، وتعزية المصابين بلوْعات الغياب.. تلك الأوقات التي تواسي فيها بحضورك، تلك الأوقات الثمينة، الناسجة وشائج الرحمة بينك وبين الناس.. صرتَ محروماً منها. تكتفي بتسجيل «الله يرحمه» أو «يرحمها»، على مواقع التواصل الاجتماعي. ثم تكمّل اللاطريق.
ولكن ما يواسيكَ في محنة الانقطاع هذه أن ملايين من البشر مثلك معزولون. ومثلك يتعطشون للرؤية واللقاء والأواصر. ما يسمح لكَ، لو صبرتَ على هذه المحنة، بأن تنظر إلى العزلة بصفتها حمّالة وجه آخر. لا أقصد هنا تلك الموجة التي طغت على الشبكة، والقائلة إنك في البيت يمكنكَ أن تطوّر مهارات منزلية. مثل الطبخ والتنظيف ومختلف أعمال تصليح البيت. وهذه مهمات محمودة، ولكن العبث يعبرها بدوره. جلّ ما تجنيه هو «لايكات» المواقع التواصلية. وهي جنى مؤقتة، ابنة لحظتها. تنساها، وأحيانا تدْمن عليها. دون أن ينْزاح العبث عن دربها.
بل أقصد شيئاً آخر. أن العزلة هذه تبعدك عن التشوّش الذي يصيبك بمعاشرتك لغيرك. حتى لو كانوا من خيرة القوم. أفكار ومواصفات وتعليقات ولا مبالاة وذبذبات. وتاريخ طويل معها. كوّنتَ خلاله تصوّراً عن نفسك، هو ترجمة لكل تلك الأنشطة الذهنية. والأخيرة من طبيعة الاجتماع البشري. لم يخلُ منه أي عصر، وأي نظام. ولا أعني هنا أنك تتخلّص في هذه العزلة من التصوّرات السلبية عن نفسكَ. كأن تكتشف، مثلاً، بعد كل هذا الصمت من حولك، أنك أكثر شجاعة أو كرماً أو ذكاء، مما ألِفْته عن نفسك بفعل الآخرين. بل يمكن أن يحصل العكس أيضاً: بأن تنْكشف نفسكَ أمامكَ، فتبدو لك أقلّ شجاعة وكرماً وذكاءً مما ألصقته بكَ تلك الأنشطة الذهنية.
الانقطاع عن العالم يسمح لك بالغوص في أعماق هذه النفس. تكاد تسمعها، هذه النفس. دقيقاً، مرهفاً تنْصت إلى نبَضك، خلاياك، دقات قلبك، وجعك، رغباتك الدفينة، فتصبح ذاكرتك مثل أروقة حرّة، تسبح بينها، تختار ما يؤنسك منها، ما يؤلمك، ما يفرحك، ما يفرض عليك إعادة التفكير.. بعد مرور كل هذه السنوات. ذاكرة متحيّزة، بلا شك. مسْلكها الطبيعي هو تفسيرها على ذوقك. ولكن حتى مع هذا الميل.. تسمع صوتا سحيقاً، آتيا من بعيد، يُنذركَ. ويقول لك إن انحيازك هذا لا يتماشى مع إخلاء دواخلك من السموم التي اعترتها يوم كانت غارقةً في بحر الحشود البشرية، وأنشطتها الذهنية.
هذا الانفتاح على نفسكَ يوقظ فضولك بغيرك. تتطفّل عليهم بالخيال أو بالمَنام أو الشرود. تتصوّرهم الآن في عزلتهم. تستعيد قصصهم المنْسية. تحنو عليهم، وتقسو. وتخشى أن تكون العزلة أقل موضوعيةً من غيرها من الأوضاع. تتحسّب، فتختار من البشرية الأبعد عن جغرافيتك وعصرك. وتأخذ بالمقارنة، بين الحيوات المختلفة، والمصائر، والسياقات. لماذا؟ كيف؟ كيف حصلت هذه أو تلك من مفترقات الطرق؟ ماذا عن القدر وعن الحرية؟ كيف يمكن قياسهما؟ ما هو عيار كل منهما؟
عين بلورية.. تطوف في أرجاء نفسها، تزور غيرها، وتتخلّص شيئاً فشيئاً من سموم الحشود. وهذه رحلةٌ ليست هانئةً على طول الخط. هي مثل اجتيازكَ محيطا يتمايل بكَ حيناً، ويعصف أحيانا. وربما لن تنتهي بعد التغلّب على الوباء. أو ربما تنقطع. ولكنها في النهاية محمولةٌ على وعد: بأن تعود فتلتقي بأقرانك، بوجه غسلته العزلة القسرية، كأنك ولدت من جديد. إنه الأمل، الوحيد ربما، الذي يستحق تحقيقه كل هذا الترحال الشاق في قلب النفس.دلال البزري
كاتبة لبنانيةالعربي الجديد
copy short url   نسخ
22/01/2021
256