+ A
A -
بين بعبدا واللقلوق وبيت الوسط والمختارة فُقد أثر الحكومة التي ضاعت في أودية الهواجس السياسية والطائفية، بينما أصبحت هموم اللبنانيين في مكان آخر، بعيداً من المعارك التي تُخاض باسمهم وعنهم.
أظهرت كلمة رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل، انّ الخلاف مع الرئيس المكلّف سعد الحريري هو أكبر من أن يُعالج بعظات البطريرك الماروني، وأنّ الحكومة المؤجّلة هي ضحية «الزواج القسري» الذي فُرض بالإكراه الدستوري على الرئيس ميشال عون بعد تكليف الحريري بأكثرية نيابية، خلافاً لرأي عون الذي كان ولا يزال غير مقتنع بجدوى هذا الخيار في مواجهة الأزمة.
ولعلّ اللافت في إطلالة باسيل الأخيرة، كلامه حول دوافع اعتراض الحريري على تسمية عون وزيري العدل والداخلية، والمتعلقة بخشيته من ان يستخدم رئيس الجمهورية هاتين الحقيبتين لإدخاله إلى السجن.
وروى باسيل، انّ الحريري «اتفق منذ البداية مع الرئيس على انّ رئيس الجمهورية هو الذي يسمّي وزيري الداخلية والعدل، ولمّا وقعت الإشكالية مع القاضي فادي صوّان، غيّر رأيه وأبلغ إلى الفرنسيين و«حزب الله» وكثيرين، انّه لا يقبل ان يسمّي الرئيس لا وزير الداخلية ولا وزير العدل. (قال شو؟ الرئيس (عون) بدّو يحبسه)..».
تعكس هذه الواقعة، اذا صحّت كل تفاصيلها، الوضع المزري الذي وصلت اليه الدولة والعلاقات الهشة بين اركانها: عون لا يأتمن على حقيبتي «العدل» و«الداخلية» مع الحريري، لئلا يستعملهما في عرقلة معركة مكافحة الفساد، والرئيس المكلّف لا يأتمن عليهما في حوزة رئيس الجمهورية حتى لا يعطيه فرصة للانقضاض عليه عندما تستوجب مصلحته ذلك، ومجلس النواب لا يثق في المحقق العدلي الذي استلم ملف انفجار المرفأ واعضاء فيه، طلبوا تنحيته عن القضية، والقضاء لا يثق في مجلس النواب، وهكذا دواليك.. انّه التشظي المؤسساتي الشامل الذي يستكمل الانهيار الاقتصادي والمالي، بحيث غدت الدولة «كومة ركام»، ليس إلّا.
أي إصلاح واي إنقاذ يمكن أن يتحققا في ظلّ هذه البيئة السياسية المسكونة بأشباح الخوف المتبادل، ووسط ارتياب كل من عون والحريري في نيات الآخر وحساباته؟
أي حكومة هذه التي ستتصدّى للتحدّيات وتنتشل لبنان من الهاوية، فيما يشعر رئيسها المفترض انّ وزاراتها الاساسية ستتحول متاريس وجبهات لتصفية الحسابات معه والانتقام منه؟
وما زاد الأمور تعقيداً، هو انّ الحريري وفريقه مقتنعان بأنّه يجري منذ فترة فتح الملفات بشكل استنسابي وكيدي من قِبل أجهزة قضائية تُحرّكها أجندة برتقالية، ما يشكّل بالنسبة إلى أنصار بيت الوسط سبباً كافياً لرفض تسليم عون «العدل» و«الداخلية» ومنع وضع رقبة تيار «المستقبل» ورئيسه بين فكّي كماشة أمنية- قضائية ممسوكة من العهد «الذي قد يذهب في العامين الأخيرين من الولاية نحو قلب الطاولة على من يتهمهم ضمناً أو علناً بالفساد ومحاولة تفشيله»، كما يتحسب معارضوه، وكأنّ الحريري المرتاب يطبّق المثل القائل «لا تنام بين القبور ولا تشوف منامات وحشة».
لكن هناك في المقابل من يلفت إلى انّ الحريري يعرف في قرارة نفسه، انّ طبيعة النظام اللبناني تحمي تلقائياً كل رموزه، وانّ سجنه كما سجن أي زعيم هو امر مستحيل في لبنان، وانّ الطوائف والمذاهب والمواقع والتوازنات تشكّل حصانات حديدية لا تتزحزح، وعصية على الاختراق.
وقد اظهرت التجارب بوضوح، كيف أنّ الخطوط الحمر المتنقلة، والعابرة لكل الساحات، حالت في اوقات كثيرة دون أن تذهب التحقيقات في أي ملف حيوي إلى نهاياتها.
ويشير أصحاب الواقعية السياسية، إلى أنّ عون نفسه يعرف انّ التركيبة الداخلية ترسم في نهاية المطاف حدوداً لطموحاته وقدراته، وانّ صاحب التمثيل السنّي الأوسع شعبياً ونيابياً يحظى بحصانة لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها، بمعزل عن عواطف رئيس الجمهورية واقتناعاته.
وحتى رئيس الحكومة المستقيل الدكتور حسان دياب، والذي بدا معزولاً وضعيفاً في طائفته بعد دخوله إلى السرايا بلا غطاء سنّي، أصبح عقب الادّعاء القضائي عليه، يشعر بنوع من القوة والاحتضان داخل بيئته، بل انّ خصومه فيها، أي الحريري ورؤساء الحكومات السابقين، كانوا اول من دعمه تحت شعار رفض التعرّض لمقام رئاسة الحكومة.
وبناءً عليه، فإنّ الارجح هو انّ الحريري يريد من خلال معارضته حصول عون على الحقيبتين الأمنية والقضائية، ليس حماية نفسه تحديداً، بل الموظفين القريبين منه والمحسوبين عليه في المؤسسات والادارات الرسمية التي يتخوف من ان تكون عرضة للاستهداف من عون والقضاء الذي يتأثر به، تبعاً للانطباعات السائدة في صفوف خصوم رئيس الجمهورية.
والى حين يستطيع عون والحريري تبادل التطمينات والضمانات، التي من شأنها تخفيف الشروط المتبادلة وتسهيل تأليف الحكومة، فإنّ السؤال المطروح هو: متى سيخرج لبنان من سجن الأزمة بعدما طالت إقامته خلف قضبانها؟عماد مرمل
كاتب لبنانيالجمهورية اللبنانية
copy short url   نسخ
13/01/2021
821