+ A
A -
د. فاطمة سعد النعيمي أستاذ التفسير وعلوم القرآن - -كلية الشريعة جامعة قطر
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
التذكر هو حضور صورة المذكور العلمية (أي التي يعلم بها) في القلب، قال ابن القيم -رحمه الله- في منزلة التذكّر: والتذكّر تفعّل من الذكر، وهو ضد النسيان، وهو حضور صورة المذكور العلمية في القلب، واختير له بناء التفعل لحصوله بعد مهلة وتدرج، كالتبصر والتفهم والتعلم.
قال الراغب في أنواع التذكر: الذكر تارة يقال ويراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة وهو كالحفظ، إلا أن الحفظ يقال اعتبارا لإحرازه، والذكر يقال اعتبارا لاستحضاره وتارة يقال لحضور الشيء القلب أو القول، ولذلك قيل الذكر ذكران: ذكر بالقلب وذكر باللسان وكل واحد منهما ضربان، ذكر عن نسيان وذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ، وكل قول يقال له ذكر فمن الذكر باللسان قوله تعالى: (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) وقوله تعالى: (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ)، ومن الذكر عن النسيان قوله تعالى: (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ)، ومن الذكر بالقلب واللسان معا قوله تعالى: (فَاذْكُرُوا اللَهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً).
فمنزلة التذكر من التفكر منزلة حصول الشيء المطلوب بعد التفتيش عليه، ولهذا كانت آيات الله المتلوة والمشهودة ذكرى، كما قال في المتلوة: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ * هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) وقال عن القرآن: (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَقِينَ)، وقال في آياته المشهودة: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ). فالتبصرة آلة البصر، والتذكرة آلة الذكر، وقرن بينهما وجعلهما لأهل الإنابة؛ لأن العبد إذا أناب إلى الله أبصر مواقع الآيات والعبر، فاستدل بها على ما هي آيات له. فزال عنه الإعراض بالإنابة، والعمى بالتبصرة، والغفلة بالتذكرة؛ لأن التبصرة توجب له حصول صورة المدلول في القلب بعد غفلته عنها، فترتيب المنازل الثلاثة أحسن ترتيب، ثم إن كلا منها يمد صاحبه ويقويه ويثمره.
وقال تعالى في آياته المشهودة: (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).
وورد التذكر والذكرى في القرآن الكريم في مواضع عديدة اقترن بعضها بالاستفهام الإنكاري كما في قوله سبحانه: (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)، واقترن بعضها بلفظ «لعل» التي تفيد الحث على التذكر ببيان الأسباب الداعية إليه، وجاءت آيات أخرى تمدح المتذكرين وتجعل الذكرى من صفات أولى الألباب، وقد سجلت آيات أخرى على الإنسان قلة تذكره أو عدم تذكره مع وجود الداعي لذلك من تلاوة آي القرآن أو جعل الليل والنهار خلفة أو إطالة العمر ونحو ذلك.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
copy short url   نسخ
10/01/2021
958