+ A
A -
بقلم: مهنا الحبيل باحث عربي مستقل مدير المركز الكندي للاستشارات الفكرية
لم تنتبه لجرس المنبه إلا بعد مضي وقت على رنينه، كانت ليلة مُتعبة مؤرقة، ثم استيقظت بعد نوم متقطع، وجهزت الأطفال للذهاب للمدرسة، فعادت للنوم الذي غرق بعد جولة إنهاك وتفكير..
فَزعة قامت من السرير تردد يا رب.. يا رب ألطف بي واحفظني وألهمني..ألهمني يا رب، سريعاً تأكدت من العباءة بالقرب، مرتبكة أمام تأخرها عن الجلسة، خاصة بأن القاضي أشار إلى احتمال صدور الحكم، سؤال الطفلين متى نعود لبيتنا مع أبوي، يتداخل مع ازدحام غضبها من سلوكه، وروح المواجهة القانونية لانتزاع حقها، عصفٌ ذهني صعب تعيشه فاطمة وكأنها أعسرُ لحظات الحياة.
تجهزت سريعاً خرجت مسرعة للسيّارة، قلقة من تأخرها لقد أمسكت بقضيتها، وكافحت وهي اليوم تنتظر قرار العدالة، كلما عاد هاجس ذكريات الحب والهمس الجميل غادرته، لقد هدم كل شيء..
لم يحترمني كامرأة شريكة حياة ولم يحترم قصة الزمن الجميل.
قبل الخروج هناك صوتٌ يخفق في مسمعها، ارتبكت ما هذا الصوت، الذي أعرفه، كان يهتف في القلب لا في الأذن:
يمّه لا تطلعين من البيت قبل ما تقرين آية الكرسي، وانفخي على روحك، وبعد يا بوك صلي ركعتين..
الله..الله صوتك يا بوي كأنك حي أشوفك وأسمعك.
تماسكت.. تلت الآية الكريمة وكانت قد توضأت وركعت ركعتيها وفي السجود انهار البكاء، في محراب الله، شعرت بقوة وطمأنينة، ثم رددت عفوياً، أبشر يا يبه.
لا تدري ما سر هذه الطمأنينة التي غشيتها، قطع صوت إغلاق باب شقتها في الخروج، والحرص على مهاتفة والدتها قبل الوصول للمحكمة رحلة التفكير، وصلت السيارة وأدارت المحرك، السيارة لا تعمل..
ياربي شسوي (ما العمل).. مش (ليس) وقته تعاتب السيّارة.
ليلة ناصر لم تكن مختلفة عن زوجته وخصمه في القضية فاطمة، لكن ناصر في زمن التأجيل الأخير للقضية، استمع لوجهة نظر مختلفة، وسط ذلك الضجيج، من بعض الرفاق كان هناك صوت مختلف..
لأول مرة شعر بوهم ذلك الحديث..
المرة.. المرة (المرأة) لازم تسوي وتفعل أمامها علشان تصير رجال، من أول خلافه مع فاطمة كان هذا القرع يقصف على مسامعه، في حين يعيش الخليج العربي، عاصفة لهب تقتلع الأفكار وتقتلع المنازل من جذورها وتُلقيها في مهب الريح، بو عوف الصديق العتيق العريق، انزعج من آخر جلسة للرفاق، كان قد أنهى سفره بعد رحلة دراسية طويلة، لم يعرف تفاصيل الخلاف لصديقه القديم ناصر، لكنه علم بأنهم على وشك إنهاء جلسة الطلاق وقضية الحضانة.
أشار لناصر..
خلنا (دعنا نخرج) نطلع نتمشى شوي، أدرك ناصر ضيق رفيقه بو عوف كان شخصية متزنة، حتى تديّنه كان له سمة وعي وسلوك أخلاق، أكثر من ثوب الوعظ، كان ناصر يحب مجالسته، ويثق في ثقافته، ثقافة تُحب أرضها ولكن تقرأ معالم الحياة الفكرية للناس، من خلال وعي مختلف يعيد التفكير في الرحلة الإسلامية، بعيداً عن القوالب الاجتماعية الجاهلية، التي تعصف بالمرأة بل تهدم بيوتاً مطمئنة.
تفاصيل رحلة بو عوف، كانت مليئة بالأحداث والمراجعات الفكرية، لكن نهايتها، كانت واثقة بمعالم المسيرة الأخلاقية التي جعلته داعية مجتمع مدني، بروح إسلامية مشرقة تحتضن أرضه ووطنه وأهله.
كان ناصر منذ تلك الليلة يستمع لرؤية أخرى، عن الحياة الأخلاقية للناس، عن التجربة المعرفية التي أخذها بو عوف، أين الطريق بين أزمة الشرق وأزمة الغرب، وما هي الخلاصة التي انتهى لها، كإيمان مطلق، في رسالة الحياة وصناعة المجتمع القوي بحقوقه وتضامنه، وأن لا معنى للتطور الحضاري، إن لم يكن قوةً أخلاقية تسمو فوق أمراض الجندرية المثلية والجاهلية الاجتماعية معاً.
في البداية بدت عبارات بو عوف غريبة على ناصر، لكنها شدته، وشدته بقوة إلى حيث فهمٍ جديد لقصته مع حبه القديم، الذي تنفصل عراه مع رحلة القلب حيث فاطمة، خلال تأجيل الجلسة أكب ناصر على كتب مختارة أهداها له بو عوف، لم يستقر رأيه لكن، بعض ما كان يظن أنها أساسيات، اتضح انها أوهام خلقتها عصبيات مَرَضية، ليس بين المرأة والرجل فقط، ولكن بين شرائح المجتمع وعلاقاته.
حضرت رحلة القراءات الأخيرة وهو يقود سيارته للمحكمة، في إشارة المرور قذف عامل التنظيف الذي وقف عندها شيئاً إلى سيارته، كان يُحاول أن يُلفت نظر ناصر، لكن ناصر كان في عالمٍ آخر، نظر إلى ذلك الشيء، تأسف أنه لم يُلق بصره احتراماً للعامل، ثم انطلق، رن الهاتف المحمول..
كان قد غيّر الرنين بعد أن كانت معزوفة أغنية جميلة بين زوجين عاشقين، هدم الخلاف معالم منزلهما الوجداني قبل المكاني..
مب معقول..
ليش فاطمة تتصل، المفروض أن نلتقي في المحكمة، مرتبكاً ناصر للغاية، رغم أنه لم يكن أول اتصال بل تكرر، لأجل أمور الأطفال وأمور أخرى، كاد الرنين ينقطع، لكنه أدركه..
السلام عليكم..
تردد المتصل ثم أجاب بصوت مضطرب، وعليكم السلام (ناصر) يرد
.. الله يعافيك ما عليه تمر تاخذني للجلسة، السيارة متعطلة في الكراج، فوراً ناصر وبروح مختلفة، أجاب..
أكيد فاطمة أكيد الحين.
أغلق الخط، وتغير مسار الطريق، وصل ناصر لمنزل فاطمة المستأجر مؤقتاً، حتى يترتب ما بعد الانفصال، ترددت تقول لأمها أو أي أحد أم تصمت، كانت قلقة حين اتصلت به، لا تعرف كيف تم ذلك، رغم أن سائقي إخوتها كان من الممكن أن يأتوا، القدر هو من يحسم والله هو من يعلم الغيب.
هل أركب ورا (الخلف) في السيارة ولا جدام؟
شعرت أن هذا التساؤل غبي فلا يزال ناصر زوجي، لكن الضغط النفسي للحظة كان هائلا، وصلت سيارة ناصر، الذي كان بين خفق القلب وأمواج القلق، خرجت إليه قرب السيارة، وأشار بابتسامة مرتبكة، تفضلي فاطمة.. تفضلي.
ركبت في جواره، في هذه اللحظة هوت الذاكرة على الحدث، بكت دون أن يخرج صوت، حدّثت نفسها، القلب لا يزال يحب، لكن عزيمتي قوية، لإنجاز قضيتي يا ناصر، حديث النفس عند فاطمة، كان يقابله حديث آخر، لكن مالم تعرفه فاطمة هو تلك الشقوق التي أحدثها رفيق ناصر القديم، بو عوف القادم من الغرب بروح الشرق الجديد..
بعد تردد كسر الصمت كيف (كيف) العيال فاطمة..
بخير الحمد لله (فاطمة)
والله أنا ولهان عليهم بس ما حبيت أزعجك.
ردت فوراً: لا إحنا متفاهمين ناصر، أي وقت تكلمني وأرتب وياك، بس انت كنت معصب (تلك) ذيج المرّة، إيه صحيح أنا آسف فاطمة..
ماذا آسف..
حديث النفس في قلب فاطمة، ناصر.. متغيّر شاالسالفة (ما القصة) وصلا لمواقف المحكمة، همت بالنزول قبله، بحكم أنها رفقة طريق لخصمين قضائيين، كلٌ يذهب إلى سبيله..
مشكور ناصر جزاك الله خير..
رد: واجب فاطمة بس تحبين أرجعك؟
قالت: لا ناصر مشكور أخوي بيرسل السائق.. (قالت ذلك ولم تكن رتبت بعد).
رد فوراً، طيب.. طيب على راحتك بس ثواني لو سمحتي، التفت إلى هدية عامل البلدية التي قذفها في سيارته، كانت وردةً حمراء من حصاد ذلك الربيع، الآن فقط استحضرها وتذكرها، دفعها إليها وبين يديها.
كانت صدمة في ثواني، تلعثم اللسان صرخت في جوفها:
(لماذا) ليش يا ناصر.. ليش الحين؟
تنزل من السيارة لا تعرف بأي شعور، ثم انتبهت في فتح الباب كيف تدخل المحكمة بالوردة، دفعتها داخل حقيبتها، بعشوائية سريعة، ثم توجهت للمحكمة، ناصر تخلف قليلاً ثم تحرك خلفها، وبالكاد وصلوا موعد الجلسة، قضية ناصر وفاطمة طلاق وحضانة، منصوبة في سجل الدائرة القضائية.
أذِنَ موظف الدائرة للخصمين بالدخول..
بعد رد السلام القاضي..
بطاقتكما فضلاً..
قدم ناصر بطاقته، فاطمة تبحث في الحقيبة باهتمام وقلق، لم تجد البطاقة، انتبهت بأنها وهي تدفع وردة ناصر، أن المحفظة الصغيرة، قد تكون سقطت من الحقيبة فلم تجدها:
عن إذنك سعادة القاضي..
أظن بطاقتي في السيارة، ثم التفتت لناصر بعفوية: ناصر من فضلك أظن بطاقتي في السيارة، رد على الفور طيب.. طيب فاطمة: ممكن سعادة القاضي؟
كان القاضي يتأمل في كل تلك التفاصيل، دون أن يُلفت نظرهما بمراقبته، انتبه بأن فاطمة أتت مع زوجها الذي تخاصمه في السيارة، لمس القاضي ارتباكا بينهما، شعر بارتياح فيه:
طيب يا ناصر وفاطمة، تأكدا من البطاقة، لكن الدائرة عليها ضغط اليوم، فممكن نرتب لكما موعدا قريبا، وليس ضرورياً أن تأتيا اليوم، ردت فاطمة لا سعادة القاضي من فضلك من زمان أنتظر الجلسة، أجاب القاضي: خير إن شاء الله لكن لا تعودا لي الا بعد 45 دقيقة نحتاج نرتب بعض الأوراق للجلسة التي بعدكما.
بسرعة قاما من المقاعد لكن ناصر شعر بشيء من الارتياح، نزلا معاً، وصلا السيارة وجدا المحفظة، قالت فاطمة نروح (نذهب): للقاضي، رد ناصر: قال 45 دقيقة ننتظر في السيارة، أو نأخذ جولة حتى يحين الموعد، وافقت فاطمة، أخرجت الوردة الحمراء، من الحقيبة..
ناصر يسترق النظر..
ثم قالت بتنهّد عميق ليش ناصر، نطق الحديث بعد أن كان الوجدان هو من يصرخ..
رد ناصر: فاطمة أنا ما أدري (لا أعلم) لا أدري ما أقول..
سكت حاول يتحدث لم يستطع..
رجعت مرة أخرى: ناصر تكلم قول اللي في خاطرك، كانت تريد تفسيرا ربما ينهي حالة الجدل التي تعيشها من الداخل.
أجاب: فاطمة أنا للحين أحبك..
اعتراف حب في اللحظات الصعبة، هل فات الأوان.. تحولت الصدمة إلى دوامة لدى فاطمة.
لكن بعد لحظة هدأ البال، قالت: ناصر وقّف السيارة الله يخليك.
أوقف السيارة.. استأنفت الحديث، ليش سويت فيني جذي، (لماذا فعلت بي ما فعلت)..
حضرت صور الخلاف بينهما، استذكر ناصر كثرة خروجه من المنزل، مساحة الابتعاد (ثقافة المهايط) التي تنتشر في بعض المجالس والاستراحات، حديث عن المرأة، عدم مبالاة.. سباق تطور صناعي، عَصَف بالحياة الاجتماعية، في ظل ضعف لغة تفاهم تجمع بين الزوجين المحبّين، وتُوائم بينهما رغم ظروف الحياة الجديدة، استحضر ناصر أخطاءه، قال لها: فاطمة، يمكن أنا غلطان بس ما عطيتني فرصة.
في ذاكرة فاطمة أيضاً شيءٌ من المراجعة، بعض الردود القوية على عبارات ناصر الساذجة، انشغالات لم تكن مقصرة فيها في منزلها، لكنها ساهمت في فتور جذوة الحب الذي كان مشتعلاً في ذلك الحي القديم من المدينة.
فاطمة: وأنا أيضا يمكن أكون مقصرة، لكنك جرحتني ناصر.
أبوي الله يرحمه اللي رعى زواجنا وأثنى عليك، كان يقول يا بنتي المراجل اللي ما تقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم، مهيب (ليست) مراجل، سمّعتني كلام جارح تلك الأيام، أنزل ناصر رأسه تذكر العم عبد الله والد فاطمة، تديُنٌ بسيط لكنه مليء بعمق الأخلاق والاحترام، أقّر لها، ولم يعارضها.
زاد خفق القلب لدى فاطمة، مفترق الطريق بات واضحاً، أين أنا من هذا المستقبل الصعب، هل أمضي إلى طريقي أم نعود سوياً لبيتنا، هل يعقل هذا..
وما هو هذا البيت هل سيعود ناصر لأخطائه.
قطع ناصر التفكير وقال:
فاطمة أنا رجل شرقي عربي خليجي، أنتِ تسمعين ما يدور اليوم من حديث، من ثقافة تفريق وصراع بين الزوجين وبين الجنسين، لم أكن أعرف ما القصة، حتى التقيت برفيقي بو عوف، الحين بدأتُ أفهم، لكن القلق الذي كنت أشعره وأسمع..
قطعت فاطمة حديثه: ناصر وأنا عربية خليجية مسلمة تربينا في بيئة وحدة، يا ناصر: حقوق المرأة واحترامها، ليس بناء على فكر غربي، أكيد عند الغرب إيجابيات، لكن أيضاً نحن وأطفالنا لسنا فئران تجارب لهم، ولا أقبل شخصيا، أن أترك اطفالي وبيتي ومجتمعي وأنا مثقفة، رهنا لهم، ولحكاية العداوة الأزلية بين المرأة والرجل، ونشر فكرتهم بين الأطفال، ناصر أنا أعرف جيداً، هذا الموضوع وقرأت عنه.
لكن بعض الناس فاهمين غلط، وضع المرأة ومعنى الشراكة، وما الذي يعنينا من قولهم، المرأة ملكة، المرأة ملكة في ديننا، وهم يسيئون للإسلام نفسه، الذي نؤمن به جميعا ونحمد الله عليه.
المرأة يا ناصر كيان مستقل، له حقه ومساحته، والإنسان الشريك المسؤول مع الرجل أب وأخ وخاصة الزوج، لأن هذه العلاقة هي سر الوجود والسكينة التي خلقنا الله بها..
صح.. صح
ردد ناصر: بالضبط والله مقتنع.. مقتنع.
خيم الصمت برهة، كانا يدافعان الدمع، ثم التفت..
عاد إلى ذلك المعهد القديم.. صوته روحه ونبضه..
فطوم.. هكذا ناداها بعد انقطاع طويل.
قفز القلب من الفرح، فردت: عيون فطوم.
قال: أحبك.. أحبك
في هذه اللحظة اندفع البكاء، بكاء غزير وكأنه يغسل أرواحاً متعبة من هم الفراق، لأزمنة طويلة.
انتبه للساعة مضى الزمن المقرر للقاضي، قال لها هل قبلتِ اعتذاري..
ردت أكيد يا حياتي..
كان هناك شعور بأنها لحظة تجديد البيت بروح احترام مختلفة، وسعادة متمكنة وسكينة مستوطنة، تبنى على قاعدة حب رومانسي قديم، يزداد قوة بمفهوم الشراكة الجديد.
ناصر: يوعان (جائع) ردت فاطمة.. أنا بعد..
طيب بنروح للمطعم اللي تحبينه، ردت عليه باحتفالية روح وخفق قلب، وسنحضر الأولاد من المدرسة مع بعض.
هتف.. أكيد فطوم أكيد..
بس لازم اسوّي (أعمل) شغلة أول!
فاطمة: إيش؟ (ماهي)
بروح أشكر أخونا العامل الآسيوي الذي أهداني وردة إنقاذ حياتي، ضحكت وبدأت تعرف الحكاية.
في ذات اللحظة هناك بعيداً في قاعة المحكمة، التفت مساعد القاضي إلى القاضي الحكيم: سعادة القاضي لم يعد أصحاب الجلسة، رد بابتسامة عريضة: يا ولدي صدر الحكم!
مساعد القاضي: كيف؟
حَكَم الحب والحب فوق القوة.
بقلم: مهنا الحبيل
copy short url   نسخ
30/11/2020
2340