+ A
A -
محمد أحمد بنّيس كاتب مغربي
تجد فرنسا نفسها في موقفٍ لا تُحسد عليه، في ظل المقاطعة التي تستهدف منتجاتها في العالمين العربي والإسلامي، احتجاجا على الرسوم المسيئة للإسلام. ولا يُستبعد أن تفرز هذه المقاطعة، في حال اتساع رقعتها، تداعياتٍ يصعب التكهن بطبيعتها، ليس فقط لأنها تنصبّ على قطاعات حيوية في الاقتصاد الفرنسي، بل لأنها، أيضا، قد تربك حسابات باريس الإقليمية.
ولعل ما يلفت الانتباه في الموقف الفرنسي كيله بمكيالين في النظر إلى الوقائع وتكييفها؛ فإذا كانت حرية التعبير تجسّد أحد عناوين خطاب الكونية في حقوق الإنسان، فإن حق المستهلك في الامتناع عن اقتناء هذه البضاعة أو تلك يندرج ضمن هذه الحرية، ما دام ذلك يتم بشكل سلمي ومتحضر. فما الذي يخوّل، إذن، ساسة فرنسا الحق في أن يطلبوا، بنبرةٍ شبه آمرة، توقيف المقاطعة، ما دامت ضمن هذه الحرية ومقتضياتها؟ ثم من أدراهم بأن الدعوة لها تصدر عن أقلية إسلامية متطرفة؟
وتعيد واقعة الرسوم المسيئة إلى الواجهة الطبيعة المركّبة والمتناقضة لعلاقة الغرب بمستعمراته السابقة، ويمكن القول إن مطالبة فرنسا بتوقيف (وليس توقف) هذه المقاطعة تكشف عن قلقها المتنامي من تطوّر سياسة شعبية موازية ومضادة للسياسة الرسمية التي تجسّدها الأنظمة الاستبدادية الحاكمة على امتداد هذين العالمين، وهي الأنظمة التي تُعدُّ فرنسا راعيةً رئيسةً لها.
وتتحمّل منظومة الاستبداد التي تدعمها فرنسا، في العالم العربي وغرب أفريقيا وآسيا، المسؤولية في تغذية التطرّف والإرهاب، بسبب تقاعسها عن تحديث أنماط الوعي والتفكير والانتصارِ لقيم الحرية والتعايش والتسامح وتشجيع القراءة النقدية والتاريخية للتراث الإسلامي. هذا الوضعُ يجعل ما تنتجه هذه المنظومة، بمختلف امتداداتها الثقافية والاجتماعية، أحد أهم مصادر التمثلات التي تُشكلها الجاليةُ المسلمةُ بشأن الإسلام. وتتحمّل الدولة الفرنسية مسؤولية هذا الوضع، من حيث عدم جدّيتها في البحث عن مداخل مغايرةٍ لبناء هذه التمثلات، واستمرارها في النظر إلى هذه الجالية باعتبارها عبئا ثقيلا، وليس مكوّنا جديدا (وإن كان وافدا من بيئة مختلفة) من مكونات الوطنية الفرنسية.
بالطبع، لا يعني ذلك تبرئةً لهذه الجالية، إذ لم تبذل نخبُها على مدار العقود السابقة جهودا لتذويب التوتر بين هويتيْها، الدينية والوطنية، وطمأنةِ القوى المحافظة في فرنسا.
{ العربي الجديد
copy short url   نسخ
01/11/2020
2540