+ A
A -
جوني منير كاتب لبناني
لا شك في أن هناك «كلمة سر» خفية أدّت إلى انقلاب الوضع من المواجهة والتصعيد إلى الاحتواء والتعاون. فجأة تحرّك الملف الحكومي وانطلقت رحلة تشكيل الحكومة في سلاسة، وبعكس ضجيج المرحلة السابقة.
لقد علّمتنا التجارب الماضية انّ قوة الدفع الايجابية تتحرك عادة بوَحي خارجي، هذا هو واقع الحال في الحياة السياسية اللبنانية، وما عَزّز هذا الانطباع جملة أحداث لا تجد تفسيراً داخلياً لها.
فالرئيس سعد الحريري انتقل من موقفه الذي كان قد أعلنه قبل أيام للصحفيين بأنه لن يترشح لرئاسة الحكومة، ولن يغطي أو يدعم أحداً غيره، إلى إعلان ترشيحه وتمسّكه به بنحو مفاجئ وبلا مقدمات.
أمّا رئيس الجمهورية، والذي اشتهر بأسلوب المعاندة والمواجهة مهما كان الثمن، والذي كان زوّاره قد نقلوا عنه سابقاً قوله انّ الحريري لن يعود إلى السرايا الحكومية في عهده، فقد أجرى استدارة كبيرة وباشَر تعاوناً إيجابياً ومَرناً مع الحريري.
هذا من دون أن ننسى كلام عون قبل يوم من بدء الاستشارات النيابية الملزمة، حين قال بما معناه إنه خسر معركة التكليف «ولكن انتظروني في مشاورات التأليف». وكذلك انعطَفَ رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل فجأة، فبعد خطابٍ عالي السقف ومواقف نارية في احتفال 13 تشرين، استدارَ فجأة وفتحَ باب التفاهم حول الحصص الوزارية مُتجاوزاً معادلة الحريري ـ باسيل معاً داخل الحكومة أو خارجها، وواضعاً جانباً تغريدته الشهيرة «الطريق الصعب والمتعرّج والطويل لعودة الحريري». كذلك، رمى باسيل خلف ظهره استثناء وزارة المال من المداورة.
ولم تقتصر المرونة على باسيل فقط، بل شملت أيضاً وليد جنبلاط الذي كان قد خاض اشتباكاً عنيفاً مع الحريري، إضافة إلى الرئيس نبيه بري. ولكن الأهمّ مرونة «حزب الله»، فلقد سمع منه الفرنسيون يوم تكليف الحريري أنه سيعمل على تسهيل مهمته الحكومية.
وعلى مسافة غير بعيدة انفَرطَ فجأة عقد «المُنتديات»، والتي كانت تشكل بوابة دخول بهاء الحريري إلى اللعبة السياسية اللبنانية. والمفارقة أنّ انفراط عقدها حصل خلال ساعات معدودة، ما يطرح كثيراً من علامات الاستفهام، وما اذا كانت مرتبطة بإعادة تركيز الساحة اللبنانية وإبعادها عن التزاعات الإقليمية.
في الواقع لم يكن الدَفع الفرنسي هو وحده من فتح الطريق واسعاً أمام إعادة تدوير الزوايا وخَفض السقوف العالية للأطراف.
صحيح انّ باريس استمرت في مسعاها الضاغط سعياً وراء تذليل العقبات، لكنّ الثابت أنّ الضغط الذي كان حاصلاً مع المشاركة الشخصية للرئيس الفرنسي والزَخم الذي ترافَقَ مع بداية طرح المبادرة الفرنسية، كان يجب أن يُثمِرا، الأمر الذي لم يحصل، ما يعني انه يجب البحث عن «كلمة سر» إضافية.
وصحيح أيضاً انّ باريس أجرت تفاهماً مع موسكو حول الملف الحكومي اللبناني، لكنّ الواضح انّ المسؤولين الروس، والذين يهمّهم عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة، يدركون حدود تأثيرهم على اللعبة السياسية اللبنانية.
يبقى الموقف الأميركي، وهنا أساس «كلمة السر».
عند انطلاق المبادرة الفرنسية راجَ انطباعٌ لبناني أنّ واشنطن تعارض سراً المسعى الفرنسي وهي تريد إجهاضه، وجرى بناء هذا الاستنتاج استناداً إلى قرار العقوبات المدوّي، والذي طاوَلَ الوزيرين السابقين يوسف فنيانوس وعلي حسن خليل، كذلك، تم الاستناد إلى المواقف الأميركية المعلنة حول رفض ضَمّ «حزب الله» إلى الحكومة.
في الواقع، لم تكن القراءة اللبنانية صحيحة إلى حد بعيد. فالتحرك الفرنسي لم يكن بعيداً عن التنسيق مع الأميركيين، صحيح انّ واشنطن، الغارقة في فوضى انتخاباتها والمهتمة في شكل أساسي بملف ترسيم الحدود البحرية، لم تكن تُعارض سَعي فرنسا لإنتاج حكومة لبنانية تشكّل في الواقع مظلة ضرورية لمفاوضات ترسيم الحدود، لكن في الوقت نفسه لم تكن واشنطن متحمّسة للمساهمة في تأمين الدعم المطلوب للمبادرة الفرنسية. إلّا أنه ومع سقوط مبادرة ماكرون، وارتفاع مخاطر تفكّك الدولة اللبنانية وسط انهيار اقتصادي ومالي، آثرت الدبلوماسية الأميركية التدخّل تأميناً لولادة حكومة ستواكِب مفاوضات ترسيم الحدود وتؤمّن الشروط المُلحّة التي يطلبها صندوق النقد الدولي من لبنان. لذلك، صدر بيان عن السفارة الأميركية، وهو في الحقيقة بيان مَصدره وزارة الخارجية الأميركية، بعد زيارة ديفيد شينكر لقصر بعبدا. وأراد هذا البيان ان يُفصّل بوضوح بين الرضى الأميركي على مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، وبين ثبات الموقف السلبي جداً من الطبقة السياسية اللبنانية حول الفساد والملفات الداخلية.
copy short url   نسخ
31/10/2020
164