+ A
A -
بحري العرفاوي كاتب تونسي
لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم مجرد زعيم يستمد مكانته من سلطته، إنما كان رمزا تتوافق فيه الأهداف النبيلة والأساليب الجميلة.
إن المناهج عادة تنبع عن مقاصدها.. محمد لم يكن فقط داعية إلى الرحمة أو يتوصف بالرحمة، إنما كان هو ذاته رحمة من الله؛ لا لأمة أو لشعب وإنما للإنسانية كلها.. «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»، رحمة من الله وهبة تماما كما الغيث وكما كل النعم التي تجعل الحياة سعيدة وذات معنى.
الدعوة المحمدية إنما كانت دعوة للحياة وللمعنى ولوحدة النوع الإنساني لا في ما هو خلقي طبيعي، وإنما في ما هو حميمي تعارفي وتعاوني. الأهداف الكبرى تحتاج أنفسا كبيرة وقيما عالية وأخلاقا عظيمة.
جاء رجل إلى مسجد المدينة متوشحا سيفه يفيض حقدا ويُبدي إصرارا على القتل، سأل عمرَ بن الخطاب أين نبيكم لأقتله؟ شدّه عمر رضي الله عنه إلى سارية المسجد وظل ينتظر قدوم الرسول الكريم وهو واثق من أنه سيأذن بقطع رأسه، ولكنه أذن بقطع وثاقه وبإطعامه.. أدناه منه بلطافته وهدوئه وعمقه الإنساني، يُحاوره بحكمته وبلاغته ودقة مفرداته. كان محمد صلى الله عليه وسلم يعرف أن هذا الرجل إنما جاء يقتل صورة مشوهة صنعها «الإعلام» في ذهنه عن محمد، وكان يعلم أيضا بأن الانتصار لرسالته ونبوته لا يتحقق بقتل الرجل، وإنما بقتل الصورة المشوهة في ذهنه ونسج صورته الحقيقية في رحمتها وإنسانيتها وعدالتها.
إن كثيرا من الناس يسيئون بنا الظن أو يكرهوننا لجهلهم بحقيقتنا، وإننا كثيرا ما نكون مقصرين في حق أفكارنا ومبادئنا وأهدافنا ومناهجنا حين لا نعرّف بها وحين نترك للآخرين مجالا لتقديمنا للناس على غير حقيقتنا، وهذا جوهر «الدعوة» ومعنى «الرسالة».
نحن مدعوون إلى إبلاغ رسالة إلى الناس مضمونها ما نؤمن به من قيم الخير والجمال والمحبة، ومن مبادئ العدالة والمساواة والشورى، ونحن مدعوون أيضا لممارسة «الدعوة» بما هي نشاط «إعلامي» هادئ أمين وحكيم، بحيث لا نصطدم بالوعي الشعبي ولا نتكلم إلا بما يقتضيه الحال، وما نفعه أكبر من ضرره، وما لا يؤذي الناس في كرامتهم ومشاعرهم ولا يسيء إلى سمعتهم ولا يُحرّض على إيذائهم.
لقد خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم في ذاك «القاتل» جوهره الإنساني.. إن المؤمن لا ييأس من أي شخص مهما كانت درجة انحرافه وفساده وإجرامه؛ لأننا نعتقد بأن في كل شخص قبسا من روح الله، وروح الله لا تموت ولا تُطمس وإن خفتت طويلا «ونفخت فيه من روحي».. عرض عليه الإسلام فرفض.. أخلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم سبيله.
صُدم الرجل من ذاك المنسوب العالي من التسامح والصبر، لم تكن تلك الأخلاق معهودة عند أكرم كرماء العرب، اكتشف أن هذا المتسامح الذي كان يحاوره لا يمكن إلا أن يكون نبيا.. رجع على عجل وأعلن إسلامه.. سأله الرسول صلى الله عليه وسلم: ما منعك أن تُسلم وقد دعوتك منذ حين؟ قال: خفتُ أن تقول أسلم خوفا.. هذا الرجل سيتحول إلى صحابي وإلى نصير للرسول ولرسالته..
تلك هي الانتصارات الحقيقية لأفكارنا ومبادئنا وقيمنا حين نحوّل أعتى أعدائنا وخصومنا إلى أصدقاء وأنصار، وليس في «تصفية» آلاف الخصوم.. إن جوهر النبوة هو الدعوة إلى «الحياة».. «استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يُحييكم»، وأما المشاريع الانتقامية الثأرية فإنها مشاريع موت لا تنسجم مع روح رسالتنا.. لو أخطأ أولاد أصدقائنا في حقنا لعبنا على أصدقائنا أنهم لم يُعرِّفوهم بنا.. فكيف لا تتحمل أمة كاملة بمثقفيها وسياسييها وفنانيها ودعاتها وسياسييها مسؤولية التقصير في التعريف بمحمد صلى الله عليه وسلم؟
كانت فرصة للمسلمين كي يقدموا للعالم ما أمكن من حقائق عن محمد ورسالته.. كانت فرصة حين انتبه العالم إلينا بسبب فيلم أو رسْمٍ لا أعتبره مسيئا للرسول قدر إساءته لصاحبه، إذ كشف عن جهله وفساد ذائقته وضعف أدبه، وأما محمد فقد رفع الله ذكره منذ أرسله نبيا «ورفعنا لك ذكرك»، فلن ينال من رفعة مقامه أي كان.
لقد أعلن الله تعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، أنه أرفع من أن ينال شخص من مكانته الرفيعة، وأنه لن يكون موضوع اعتداء أو حط من قيمة، بل إن الشقي المحروم هو من لا ينتهي بعقله وبصيرته إلى سبيل النجاة الذي يهدي إليه محمد صلى الله عليه وسلم.
ليس مناسبا أن نتكلم عن رسولنا الكريم كما لو أنه معتدى عليه، وكما لو أنه بحاجة لنجدته والدفاع عنه، وهو من حسم الله تعالى القول في رفعة شأنه وعلو مكانته، وهو أصدق قائل فلا يطاله طائل ولا يناله نائل ولا يصول عليه صائل..
مطلوب تناول الحادثة من جهة كونها معبرة عن فساد ذائقة أصحاب الرسوم الساخرة، وضعف همّة من يروجون لها، وعقدة الهزيمة الحضارية والأخلاقية لدى من يعادون محمدا صلى الله عليه وسلم، ومن يجدون لذة نفسية في إيذاء أتباع رسالته ومتبعي سنته وملتزمي منهجه.
copy short url   نسخ
29/10/2020
1192