+ A
A -
تضمن المؤشّر العربي 2019 - 2020 الذي أصدره، أخيراً، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيانات ومعطيات مهمة بشأن الديمقراطية في تونس، حرِيَة بالتوقف عندها والتدبر فيها وقراءتها، في ضوء ما يطرحه الانتقال الديمقراطي في تونس من أسئلة وجدل. لقد أظهر أن المستجوبين في تونس قيموا مستوى الديمقراطية في بلدهم بـ 6،9 من أصل 10، وهي النسبة الأعلى عربياً، مؤكدين أنهم الأكثر انتقاداً لحكوماتهم من دون خوف مقارنة بباقي الدول العربية التي شملها الاستطلاع، وذلك بهدف الوقوف على اتجاهات الرأي العام العربي نحو مجموعة من المواضيع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
عبر 76% من المستجوبين في تونس عن تأييدهم النظام الديمقراطي مقابل 17% عارضوه
لقد عبر 76% من المستجوبين في تونس عن تأييدهم النظام الديمقراطي مقابل 17% عارضوه. اللافت أن توافق الرأي العام التونسي على تأييد الديمقراطية والذي قابله تقييم سلبي لواقعها ولمستواها عربياً، حيث قيم المستجوبون في البلاد العربية مستوى الديمقراطية بـ 5،8 درجات من أصل 10، أي أنها في نظرهم لا تزال في منتصف الطريق. والملاحظ في هذا الصدد أن ما أظهرته نتائج المؤشر العربي 2019-2020 من شبه إجماع الرأي العام التونسي على تأييد الديمقراطية، وهي النسبة الأعلى عربياً، يقابله واقعياً سؤال حارق يردّده جميع التونسيين اليوم: ماذا فعلنا بالديمقراطية؟ التي أصبحت كلفتها عالية جداً ولعلها تدفع دائماً من جيوب الفقراء. إذ أصبح الاحتقان الاجتماعي واتساع الهوة بين وعود الخطاب السياسي والواقع الصعب المعيش يزداد عمقاً واتساعاً من يوم إلى آخر، نتيجة فشل الحكومات المتعاقبة منذ الثورة في إحداث تغيير إيجابي وملموس في حياة المواطن، يلبي احتياجاته ويستجيب لمطالبه، فقد سادت قناعة شبه عامة بأن شعار الديمقراطية الذي نادت به شرائح الشعب الكريم خلال ثورتهم على النظام السابق قد ظل حبراً على ورق، استثناءً لما تحقق من حرية تعبير أصبح التونسيون يمارسونها في الفضاء العمومي وعبر وسائل الإعلام وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، تعبيراً عن غضبهم لما آلت إليه أوضاعهم المعيشية، وانتقاداً حادّاً لحكوماتهم وأحزابهم ونخبهم السياسية في السلطة والمعارضة، من دون خوف أو وجل. وهو ما عكسته نتائج المؤشّر، فقد ظلت الشعارات والوعود التي أطلقتها كل الأحزاب والشخصيات في الانتخابات التشريعية والرئاسية منذ الثورة شعارات وتطلعات، فالسياسيون الفائزون في الانتخابات يلجأون عادة، لدى مباشرتهم العهدة، إلى التصريح بأن حجم المسؤولية لم يكن مطابقاً لتوقعاتهم، وأن إكراهات عديدة وتحدّيات مستجدّة، ومنها أزمة جائحة كورونا تحول دون تطبيق ما وعدوا به بالسرعة والنجاعة التي يتوقعها المواطن. وقد تظل تلك الوعود ذاتها صالحة لانتخابات أخرى، ودافعاً آخر لسدة الحكم، إذ يجمع متابعون على أن التونسيين يعيشون منذ ثورتهم زمن «مساوئ الديمقراطية» لا زمن نعيمها.
لقد أصبحت القرارات الحكومية تستغرق زمناً طويلاً معطَلاً إعداداً وتشريعاً وتنفيذاً، كما تمت إضاعة كثير من المال العام من أجل دعم الحملات الانتخابية التي أفرزت، في أحيان كثيرة، برلماناً مشتتاً متشظياً تسوده المناكفات والصراعات والتجاذبات، بعيداً عن ثقافة الحوار والتعايش وما ينفع الناس.
وفي المحصلة، نحن إزاء عالم جديد يتشكل في تونس وفق قيم جديدة وتصوّرات مغايرة عن السائد، ينحدر من رحم الإرباك الديمقراطي والممارسات غير الناضجة لمعادلة الحق والواجب. إذ يبدو أن الحالة التونسية قد آن أوان اعترافها بأن غالبية التونسيين لم يفهموا التغيرات الحاصلة في الداخل والخارج، ولم يعوا شروط الانتقال الديمقراطي، وأولها التأسيس التربوي والثقافي لأرضية هذا الانتقال غير الآلي، مع اعتبار عنصر الزمن الضروري، فقد صابرت شعوب أخرى حققت هذا الانتقال بتأنٍ وحكمة وتبصر وتضحية امتدت عقوداً كثيرة من الزمن.
إن استحقاقات كثيرة مؤكدة وضرورية تنتظر التونسيين من أجل سلامة العبور إلى مجتمع ديمقراطي منشود يتوافق مع تطلعاتهم التي عبروا عنها من خلال الاستطلاع، وظهرت في نتائج المؤشّر العربي 2019 – 2020 حول سؤال الديمقراطية.محمد أحمد القابسي
كاتب تونسي
copy short url   نسخ
18/10/2020
354