+ A
A -
بعد أقل من شهر على تكليفه تشكيل حكومة جديدة، اعتذر الدبلوماسي الذي لم يكن معروفاً في الشارع اللبناني مصطفى أديب، عن المهمة بعدما علّقت آمال على جهوده لإنقاذ البلاد من الانهيار عبر إحداث تغيير سياسي وإجراء إصلاحات شاملة.
وكلّف أديب في 31 أغسطس بديلاً رئيس حكومة تصريف الأعمال عن حسّان دياب الذي استقالت حكومته عقب الانفجار الكبير الذي وقع في 4 أغسطس في مرفأ بيروت.ومنذ تكليفه، سعى إلى تشكيل حكومة اختصاصيين قادرة على إقرار الإصلاحات الضرورية.
لكن جهوده اصطدمت بشكل خاص بإصرار الثنائي الشيعي ممثلاً بحزب الله، القوة السياسية والعسكرية الأبرز في البلاد، وحليفته حركة أمل بزعامة رئيس البرلمان نبيه بري، على تسمية وزرائهما والتمسّك بحقيبة المال.وتولّى أديب (48 عاماً)، المتحدّر من مدينة طرابلس شمالاً والمقرّب من رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي، مهام سفير لبنان لدى برلين منذ العام 2013 حتى إعلان تسميته رئيساً مكلّفاً في نهاية أغسطس.
وبرز اسم الرجل إلى التداول فجأة عشية الاستشارات النيابية، خلفاً لحسان دياب، بعدما تبنى رؤساء الحكومات السابقون بينهم سعد الحريري ونجيب ميقاتي ترشيحه وقبول القوى الرئيسية به، على رأسها رئيس الجمهورية ميشال عون وحليفه حزب الله.
وبحسب سيرة ذاتية منشورة على موقع سفارة لبنان في برلين، يحمل أديب دكتوراه في القانون والعلوم السياسية. وبدأ مسيرته المهنية أستاذاً جامعياً في جامعات عدة في لبنان، حيث عمل أستاذاً متفرغاً في الجامعة اللبنانية منذ العام 2010، وفي فرنسا. وشارك في إعداد أبحاث أكاديمية وقدّم استشارات في مجالات عدة، بينها الرقابة البرلمانية على قطاع الأمن واللامركزية والقوانين الانتخابية.
وليست هذه أول مرة يدخل فيها أديب إلى السراي الحكومي، إذ عيّنه ميقاتي مديراً لمكتبه في رئاسة الحكومة عام 2011، بعدما عمل مستشاراً له بين العامين 2000 و2004. ثمّ عيّنه ميقاتي سفيراً من خارج الملاك في السلك الخارجي في وزارة الخارجية والمغتربين برتبة سفير.
واستقالة أديب هي الثالثة لرئيس وزراء خلال أقل من عام، بعد استقالتي رئيس الحكومة السابق حسان دياب إبان انفجار مرفأ بيروت، والرئيس الأسبق سعد الحريري الذي استقال في أكتوبر بعد احتجاجات شعبية عمت جميع المناطق اللبنانية ضد الطبقة السياسية الحاكمة.
وقال أحد معارفه في طرابلس طالباً عدم الكشف عن اسمه لوكالة فرانس برس، «تتسم طباعه بالهدوء والسلاسة واللياقة والدبلوماسية»، مشيراً إلى أنه «ليس رجل مواجهة ولا يبدي مواقف حادة، إنما يتجنب المشاكل ويسعى لحلها دبلوماسياً من منطلق تعزيز علاقته مع مختلف الأطراف».
وقال محمّد الدهيبي (40 عاماً) الذي كان أحد طلابه عندما درّس في كلية الحقوق في طرابلس في السنة الدراسية 2000-2001 «كان يبلغ نحو 28 عاماً، إذ جاء لتعليمنا فور إنهاء دراسته العليا في الجامعة اللبنانية نفسها»، مضيفا «كان حينها أستاذاً خجولًا، ولو لم يكن يرتدي بزة رسمية لما كنا لنصدق أنه أستاذ جامعي».
لقد حاولت القوى السياسية اللبنانية، في الموالاة، أو في المعارضة، أن توحي فور اعتذار أديب تمسكها بالمبادرة الفرنسية، نظراً لتعذّر إيجاد البديل، خصوصاً أن انفجار المرفأ أعاد الاهتمام الدولي بلبنان الذي أدرجه على لائحة الدول التي هي في حاجة لشتى المساعدات شرط التزامه بالإصلاحات.
إلا أن التمسُّك بالمبادرة الفرنسية لا يحجب الأنظار عن المحاولات التي استهدفتها، لتجويفها من مضامينها، ولا عن رد فعل باريس حيال اعتذار أديب، لأنه ليس هناك من ينوب عن ماكرون، ويدّعي أن مبادرته ما زالت قائمة.
لذلك، فإن مرحلة ما بعد اعتذار أديب مازالت غامضة، ولا يمكن تحديد معالمها على الأقل في المدى المنظور، لأنها أحدثت إرباكاً أدى حتماً إلى إعادة خلط الأوراق.
وفي هذا السياق، فإن رؤساء الحكومات السابقين تجاوبوا مع رغبة ماكرون بإسناد وزارة المالية إلى شخصية شيعية مستقلة، يعود للرئيس المكلف اختيار الاسم الذي سيشغلها، وذلك لإنقاذ المبادرة الفرنسية.
بعض المصادر قالت إن رفض «الثنائي الشيعي» لطلب ماكرون انطلق من أن من حقه اختيار أسماء مرشّحيه لتولي الحقائب الوزارية، ولن يسجل على نفسه الموافقة على سابقة يمكن أن تستغل لاحقاً وصولاً إلى حصر التسمية بآخرين من خارج هذا الثنائي. ولفتت إلى أن أديب رفض أن يخص «الثنائي الشيعي» باستثناء يتعلق بتسوية وزرائه، وعزا السبب إلى أنه يحق للآخرين الطلب منه معاملتهم بالمثل، وكشفت أن أديب صارح رئيس الجمهورية ميشال عون، عندما التقاه بالصعوبات التي يواجهها، والتي تطيح بالمعايير التي كانت وراء تكليفه بتشكيل الحكومة، والتي هي من صلب الورقة الفرنسية التي تقدّم بها ماكرون، وتبنّاها الجميع، وتعامل معها على أنها خريطة الطريق لإنقاذ لبنان.
وأكدت أن أديب أبلغ عون بأنه يشكل حكومة مهمة ببرنامج إصلاحي وإنقاذي واضح، وأنه ليس في وارد الخروج عنه، وقالت إنه أكد مضيّه في اعتذاره طالما أن هناك من يطالبه بتوفير الحلول للأزمات المتراكمة منذ إقرار «اتفاق الطائف».
ونقلت عن أديب قوله إن الخلاف على «الطائف» لناحية آليات تطبيقه بدأ منذ 30 عاماً، أي من تاريخ إقراره، فكيف نجد كل هذه الحلول من قبل حكومة مهمة ببرنامج إنقاذي ولمرحلة انتقالية. وأضافت أن عون جدّد تأييده لمبدأ تطبيق المداورة في توزيع الحقائب، وأبدى تفهّمه لموقف أديب بتشكيل حكومة غير سياسية، مشدداً على أن من حقه تسمية الوزراء المسيحيين، طالما أن هناك من يريد تسمية وزرائه.
وتمسكت مصادر بعبدا، كما نقلت صحيفة «الأنباء» الالكترونية اللبنانية بمقولة إن «الرئيس ميشال عون ومنذ تكليف مصطفى أديب كان دائمًا إلى جانبه باعتباره شريك أساسي في عملية التشكيل، لكن أديب في كل اللقاءات التي عقدها معه لم يعرض عليه أي تشكيلة حكومية ولا أية اسماء، وبالتالي فإن رئيس الجمهورية لا علاقة له بالأسباب التي دفعت أديب إلى الاعتذار، وهو في هذه الحالة لا يسعه الا قبول الاعتذار».
مصادر بعبدا أشارت إلى أن «عون سيتشاور مع ماكرون حول استمرار المبادرة الفرنسية قبل تحديد موعد للاستشارات النيابية لتكليف شخصية جديدة لتولي رئاسة الحكومة»، كاشفة عن أنه «قد يدعو إلى لقاء يُعقد في القصر الجمهوري يحضره رؤساء الكتل النيابية للتداول في أوضاع البلاد وبالأخص في تأكيد المداورة في الحقائب الوزارية دون استثناء». الا ان المصادر لم تحدد موعدا لهذا الاجتماع.
لكن الصحف اللبنانية نقلت عن مصادر رئاسة الجمهورية قولها إنّ «الدعوة إلى الاستشارات النيابية لتسمية رئيس حكومة بديل لن تكون سريعة»، مرجحة أن تتم بعد منتصف الأسبوع المقبل وذلك بعد تقييم هذه المرحلة وتجربة أديب وما رافقها من مشكلات ودراسة ردود الأفعال عليها «لتكون الخطوة مدروسة وليست ناقصة».
واعتبر مراقبون أن اعتذارأديب، بمثابة «انتكاسة جديدة» للرئيس إيمانويل ماكرون في لبنان و«شهادة وفاة» لمبادرته.
طوني أبي نجم، الكاتب والمحلّل السياسي اللبناني، رأى أنّ «المبادرة الفرنسيّة طارت منذ اللحظة الأولى لأنّ هناك قرارًا إيرانيًّا برفض الذهاب إلى المفاوضات إلّا مع الطرف الأساسي وهي الولايات المتحدة وذلك بعد الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة».
وقال للأناضول: «إيران لم تأخذ فرنسا على محمل الجدّ وتعتبر أنّ باريس لن تقدّم أي طروحات جديّة، لذلك كان هناك قرارًا واضحًا منذ اللحظة الأولى بعرقلة تشكيل الحكومة وفق ما يريده الغربيون».
وأكّد أبي نجم أنّ «حزب الله ترجم الرغبة الإيرانيّة على الأرض بإفشال هذه المبادرة عندما شعر الحزب أنّ بري سيدفع باتجاه تقديم بعض التسهيلات».
وشدّد على أنّ «الإيرانيين يفضلون البقاء على هذا الوضع إلى ما بعد الانتخابات الرئاسيّة في الولايات المتحدة».
وعن المواقف التي أطلقت عن ضرورة إبقاء المبادرة الفرنسيّة، أجاب: «الدولة الفرنسيّة بعد نسف المبادرة تسعى إلى الحفاظ على ماء الوجه خصوصًا وأنّ ماكرون لا يودّ أن يظهر أنّ الجهد الذي وضعه في بلد صغير كلبنان غير قادر على الوصول إلى نتيجة».
ولفت إلى أنّ «فشل مبادرة ماكرون في لبنان سيكون لها ارتدادات في الداخل الفرنسي بشكل كبير لأنّ ماكرون له أزمات داخليّة وحاول الحصول على خرق خارجي ما، لكنّه لم يوفّق في الموضوع».
وانتقد أبي نجم، المواقف التي صدرت من الأطراف الداخليّة حول تمسّكهم بالمبادرة، قائلًا: «أسخف ما يمكن سماعه أنّ من أفشلوا المبادرة متمسّكون بها».
من جانبه، رأى الكاتب والمحلّل السياسي، قاسم قصير (مقرّب من حزب الله) أنّ «فرنسا لا تزال مستمرّة في جهودها لمعالجة الوضع اللبناني».
واعتبر قصير في حديثه للأناضول أنّ «ما سقط هو الاتفاق على تكليف الرئيس مصطفى أديب بتشكيل حكومة جديدة»، موضحًا أنّ «هذا الشقّ هو الذي سقط الآن».
وقال: «هذا الأمر يقتضي الآن متابعة المبادرة أو توضيح ما حصل»، مؤكّدًا أنّ «المشكلة في أنّ المبادرة لم تكن واضحة في التفاصيل لذلك وقع خلاف في الرأي حيثُ عمد البعض إلى إفشالها».
وعن سبب إصرار فرنسا على إنجاح المبادرة مع سقوطها بعد إعتذار أديب، ردّ قصير: «فرنسا لديها مصالح اليوم مهمة واستراتيجيّة في لبنان سواء بحماية الوجود المسيحي، أو بسبب خوفها من تطور الدور التركي في المنطقة خصوصًا في المتوسط، وبعض المصالح الاقتصاديّة في لبنان».
وشدّد على أنّ «فرنسا تسعى جاهدة لأنّ يكون لها دور فاعل في لبنان ولاسيّما مع تراجع الدور الأميركي المباشر».
وعن تقييمه لما حدث اليو بالنسبة لفرنسا، قال قصير: «لا شكّ أنها نكسة وما حصل نتيجة خلافات سياسيّة داخليّة لبنانيّة وبسبب عدم وضوح المبادرة بتفاصيلها، لكنّ على الجميع البحث على حلول لإخراج البلاد مما هي عليه».
بدوره، أوضح الكاتب والمحلّل السياسي، جورج حايك، أنّ ما حصل اليوم هو نتيجة عوامل خارجيّة وداخليّة.
وقال حايك للأناضول: «العامل الخارجي كان طاغيًا خصوصًا في ظلّ شدّ الحبال القائم بين إيران وأمريكا، وسط رهانات إيرانيّة على فشل دونالد ترامب في الانتخابات المقبلة».
وتابع حايك: «إيران تسعى لكسب الوقت وتعلي السقف في لبنان وأوعزت لحزب الله أن يتشدّد في موضوع الحكومة».
وقال: «رغم مبادرة الحريري بقي حزب الله متمسّكًا بشروط حقيبة الماليّة لذلك كان معلومًا رفض الحزب تسهيل المبادرة للأسباب المذكورة».
وعن قدرة الاستمرار في انعاش المبادرة الفرنسيّة، أوضح: «اليوم الأطراف اللبنانيّة وبالأخص الثنائي الشيعي غير مبالين للأوضاع التي تمرّ بها البلاد ويراهنون على الوقت».
من جهته، نعى الكاتب والمحلّل السياسي، يوسف دياب المبادرة الفرنسيّة، قائلًا: «مع اعتذار أديب ماتت المبادرة الفرنسيّة لأنّ مقوّمات تشكيل الحكومة ضمن مهل محدّدة وقصيرة سبق وأن وضعها ماكرون سقطت».
ومضى شارحًا: «أي محاولة لإنعاش مبادرة ماكرون لن يكتب لها النجاح خصوصًا وأنّ أي رئيس حكومة لن يقبل بأي عمليّة تكليف سيعود إلى نفس المخاض الذي عاناه أديب».
وتصوّر دياب في حديثه للأناضول أنّ «كلّ الحلول باتت مقفلة حتى لو أعلن الفرنسي أنّ المبادرة قائمة».
واعتقد دياب أنّ «مقوّمات المبادرة الفرنسيّة انتهت وإنجاح أي مبادرة أخرى في الوقت الراهن غير متوفرة».
وقال: «حزب الله ومن خلفه إيران ليس من مصلحتهما تقديم أي تنازلات في موضوع الحكومة قبل تبلور صورة الانتخابات الأميركيّة التي يُبنى عليها بالنسبة لهما».
واستطرد: «إذا كان هناك تنازلات سيقدّمها الإيراني وحزب الله على طاولة التفاوض ستُقدّم للأمريكي وليس للفرنسي».
وشدّد دياب على أنّ «ماكرون خسر أوراقه من خلال إجهاض المبادرة وبالتالي هو لن ينعيها وربما سيبحث عن كبش فداء جديد أي رئيس جديد للحكومة».
وختم: «ما حصل مع ماكرون في الداخل اللبناني سيترتّب عليه نتائج في فرنسا، وبالتالي سيسعى للحفاظ على ما تبقى له من ماء الوجه».
copy short url   نسخ
28/09/2020
457