+ A
A -
سليمان قبيلات كاتب أردني
انتشر في البيوتات خبرُ وصول القلّاب والأخشاب والرمل القاني، الذي أثار الدهشةَ والحسدَ لدى الناس، الذين جاءوا زرافات مستطلعين الجديد، في مفاجأة «أبو سالم»، وغرفته التي أصبحت حديث التعاليل. بدأت ورشة البناء في صبِّ الأساس بالباطون المسلح بـ «مطارق» حديد، و«شمعات» أربع انتصبت، مؤكدة للقرية ّ أن عزم «أبو سالم» لا يلين في إنفاذ ما عقد أمره عليه. بدّد القلّاب، غيرَ مرّةٍ، صمتَ القريةِ، وهو يخترقها محملاً بالرمل الأبيض والإسمنت، وغدت متداولة كلمات «باطون» و«شمعات» و«مطارق» الحديد و«المسامير»، طويلها وقصيرها. انهمك المعلم في إجابة كثير من أسئلة «زوّار الفرجة»، فعرفوا كلمات «تسوية» و«سقالة» و«شاكوش» و«قطاّعة» و«زرّادية» و«أسلاك تربيط» بلونها الذي تحوّل بنيّا غامقاً تحت شمس أيلول. بدأت واجهة الخشب ترتفع شيئاً فشيئاً، تُخفي في أحشائها جداراً إسمنتياً يعلو معها. ولأن الألواح لا تكفي، كان «البنّاء» يلجأ إلى الانتظار يوماً أو يومين، ليجف الباطون داخلها، فيفكّها، لينصبها من جديد في الأعلى، وهكذا حتى يكتمل ارتفاع الواجهة. بعد أيام، عقد «البنّا» أمره على أن ينصب أخشابه دفعةً واحدةً في حركة نمت عن تعب من العمل في «هذا الريف الذي يعيش على الخبز والتمر واللبن والقليل من الخضراوات» إن تسنّى توفيرها.
كان هذا النمط الغذائي يُغثي «البنّا» أو حسبما نعته المتهكمون «المعلم أبو سكارة» و«الرادو» أي الراديو لكثرة حديثه وطول سرده.
اعتلى «البّنا» سقالته طالبا بدء صب الباطون فيما هو «يدكّه» لئلا تتشكّل فراغات من الهواء داخله، قد تحدث خللاً لاحقاً في البناء. استمر رفع الباطون داخل الخشب حتى بلغ نحو مترين أو يزيد. عندئذ بدأت تسمع اصوات «طقطقة» وتكسير لفتت انتباه «أبو سالم» الذي يراقب ارتفاع بنيانه ّ بحبور. حذّر «أبو سالم» «البنّا» من أنّ ثمة ما يخشاه من انهيار الباطون والاخشاب. أكّد أنّ الاخشاب بحاجة لمزيد من الشد بالاسلاك والمسامير، لأنّ ارتفاعها إلى هذا الحد «غير مسبوق» في البناء. طلب المعلم اسلاكاً ومسامير. بحثوا متوترين لكنهم لم يعثروا حتى على القليل منها. قال «البنّا»: أظن انني نسيت «باكيت» المسامير الأخير داخل ُ الخشب وقد غمره الباطون. طلب اخشابا ليقوّي واجهة الخشب بدعائم، لكنهم لم يجدوا شيئا، ألحّ أبو سالم بضرورة انقاذ الموقف لكن من دون جدوى، وهو يردد «يا ستّار استر» فيما «البّنا» يقف في الأعلى حائراً في التصرف المناسب. وما هي الا لحظات، حتى تهاوت الواجهة ْ ملقيةً «البنّا» أرضاً، وقد أصيب إصابةً بليغةً هشّمت ُقدميه وظهره. أسعفوه بما تيسر من تطبيب سائد في الملمات كهذه. أوقفوا نزف الدم واستدعوا على عجل قريبا لهم عرف بالتجبير. جاء هذا ومعه كيس فيه مجموعة من الجبائر المعدّةِ لمثل هذا الطارئ.
جاء انهيار دار «أبو سالم» حجّة إضافية لحسّاده ومتهميه بالعنطزة وعدم الاستماع، وغدت حادثة الانهيار وملامة «أبو سالم» على كل لسان، ولم تشفع له عزيمته أو شدّة بأسه من جعله موضع تندر في المجالس.
تداول رجال في جلسة دائمة في الدكّان اليتيمةِ في القرية، أمرَ الانهيار. قال أحدهم: مع دقةِ آخر مسمارٍ بدأ تفكّك الخشب، مضيفا ان استخدام آخر مسمار ينم عن غباء، لكن الاكثر غباء هذا «الابو سالم» الذي جاء بمعلم لم نسمع منه سوى مدح نفسه وصيته المزعوم في البناء، فيما هو ضحية بنائه المنهار.
تساءل آخر متهكما: أي بناء هذا نهايته دم؟! أردف قائلا: يا «جماعة» لا أظن ان الأمر يخلو من غش، فالقصة ليست فقط في آخر مسمار، بل في الخشب ذاته وفي دعاماته المتهالكة. تدخل ثالث مؤكدا: ان هناك من نقل عن «أبو سالم» تحذيره لـ«البنّا» منذ يومه الأول من ان غالبية أخشابه تالفة، لا تحتمل ضغط الباطون، لكنه أصرّ على انها ستحتمل..!
copy short url   نسخ
19/09/2020
178