+ A
A -
بعد كل جريمة نكراء ضد مدنيين أو عسكريين وأمنيين نجد أنفسنا نعيد نفس الأسئلة ونخوض في نفس القضايا: الجهل، والبطالة، والاستبداد، والإرهاب.
لا يمكن أن تنتهي المعركة ضد الإرهاب إلى نتائج إيجابية؛ ما لم يصدق السياسيون والمثقفون في منطلقاتهم وأهدافهم، وما لم يتخيروا من الأساليب ما يجنب البلاد المكائد والتوترات. ثمة خشية حقيقية من أن يكون البعض -ولدوافع أيديولوجية وحسابات سياسية- ينطلق من شعار محاربة الإرهاب لممارسة التصفية العَقَدية ضد رموز الاعتدال، بل وضد النص الديني أصلا.
ثمة من يريد إعادة أسلوب النظام السابق في محاربة الإسلاميين عن طريق إشاعة السخف والتفاهة، وفن النفايات وثقافة التهريج والإثارة. ولعل المتابعين لتلفزاتنا العمومية والخاصة قد لاحظوا درجة الاهتمام بالموضوعات المثيرة والمستفزة والصادمة للذائقة وللمشترك من القيم.
ثمة من يريد إعادة أسلوب النظام السابق في محاربة الإسلاميين عن طريق إشاعة السخف والتفاهة، وفن النفايات وثقافة التهريج والإثارة.
بعض الصحف تشتغل بحماسة في «النفير» وفي صناعة الأخبار المفزعة دون تقدير لما قد يترتب على أسلوبها ذاك من مخاطر نفسية وأمنية، ومن إساءة لصورة تونس في الداخل والخارج.
التونسيون المنسجمون ثقافيا وحضاريا ومذهبيا لا يمثلون بيئة مناسبة لنشأة الظاهرة الإرهابية، ولذلك يستغرب الكثير من الملاحظين تعرض تونس في السنوات الأخيرة إلى ممارسات إرهابية بشعة استهدفت رمزين سياسيين من الجبهة الشعبية، كما استهدفت عددا من الجنود ومن رجال الأمن وبأساليب غادرة وإجرامية.
ما هي العوامل الحقيقية لنشأة ظاهرة الإرهاب بتونس؟ هل يمكن إرجاع السبب إلى عامل واحد من بين عوامل عديدة (ثقافية، سياسية، تربوية، دينية، اجتماعية)؟ هل يكفي تعليق كامل المسؤولية على طرف سياسي بعينه حتى تختفي ظاهرة الإرهاب من بلادنا؟ إلى أي حد يتحمل المثقفون جزءا من المسؤولية في ما أصاب عددا من شبابنا من انحراف في أفهامه وتصوراته، حتى انتهى إلى تبني فكر تكفيري مستورد لا علاقة له بروح الإسلام ولا بطبيعة شعب تونس وتاريخه وثقافته؟
سيكون مهما تحديد المسؤوليات ومصارحة الذات، والوقوف على الأسباب الحقيقية لانحراف آلاف الشباب التونسي، ولا يكفي إطلاق الشعارات والشتائم، ولا يجدي التبرؤ من نشأة الظاهرة ومحاولة إلقاء المسؤولية كاملة على أطراف آخرين، سواء كانت سلطة ما قبل 14 يناير أو ما بعدها.
وإذا كان للسياسيين عادة أسلوبهم الاستعجالي في التعامل مع الحوادث والظواهر وفق قاعدة الربح والخسارة ومنهج التوظيف والاستثمار، فإن ما يُستغرب هو اصطفاف عدد من المثقفين والإعلاميين وراء أجهزة الحكم سياسية وأمنية؛ يرددون خطابها ويقتفون أثرها دون تحمل مسؤولية التحليل والتشخيص، وربط النتائج بالمقدمات بهدوء وموضوعية وتواضع للحقيقة وحقائق التاريخ.
إن عددا من هؤلاء المثقفين والإعلاميين يستعملون مفردات حاسمة تستعجل «القضاء» على الإرهابيين واجتثاثهم واقتلاعهم واستئصالهم، كما لو أنهم بصدد مقاومة أعشاب طفيلية أو كيانات جامدة، وكأن الإرهابيين جيش منتظم معلوم العدد والعتاد ومراكز التدريب، وكأن الإرهاب ليس لوثة نفسية وتشوها، فكرا وأسرارا، وعُقدا مخبّأة في الصمت وفي الانطواء وفي الأحقاد والنوازع الثأرية، أو كأن الفقر والحرمان والبطالة والاستبداد والإقصاء ليست عوامل منتجة للحالات الغضبية وردود الفعل العنيفة.
إننا نخشى أن ينتهي المنهج العقابي في معالجة الظاهرة إلى تبرير ما قد يحصل من تجاوزات ضد حرية الأفراد وأمنهم ومطالبهم في العدالة والتنمية، وفي محاسبة المجرمين واللصوص الكبار.. نخشى أن تصبح الحرب على الإرهاب الدخان الذي سيُخفي تجاوزات ومظالم واعتداءات، تمهيدا لعودة الاستبداد الذي ذاق التونسيون مرارته عقودا، ولم يعد ممكنا قبولهم بالصمت وطأطأة الرؤوس وقد تشربوا الحرية وانتشوا بكرامتهم المستعادة طيلة عشرة أعوام. إن الحرب على الإرهاب ليست مشروع مقاولات وليست عملية تجريف يستعان فيها بالجرافات الخرساء الصماء الخاوية، تتحرك بقسوة دون روح أو فكرة أو حكمة أو ضوابط إنسانية.. للأجهزة الأمنية أساليبها ومناهجها وأدواتها، بل إن الكثير من تدخلاتها إنما يُعدّ سدا لفراغات تركها منتجو المعاني والقيم وصانعو الأفكار والتصورات.. المؤسف أن المثقفين والإعلاميين يُقصرون في أداء مهمتهم، وينتحلون بدل ذلك صفة رجال الأمن يحلون محلهم.
{ عربي 21
copy short url   نسخ
16/09/2020
173