+ A
A -
د. فاطمة سعد النعيمي
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
أعطى الله عزّ وجلّ كلّ نبيّ من الأنبياء عليهم السّلام معجزة خاصّة به لم يعطها بعينها غيره تحدّى بها قومه، وكانت معجزة كلّ نبيّ تقع مناسبة لحال قومه وأهل زمانه.
فلمّا كان الغالب على زمان موسى عليه السّلام السّحر وتعظيم السّحرة، بعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار، وحيّرت كلّ سحّار، فلمّا استيقنوا أنّها من عند العزيز الجبّار انقادوا للإسلام وصاروا من عباد الله الأبرار.
وأمّا عيسى عليه السّلام فبعث في زمن الأطبّاء وأصحاب علم الطّبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه إلّا أن يكون مؤيّدا من الّذي شرع الشّريعة، فمن أين للطّبيب قدرة على إحياء الجماد، وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التّناد، أو على مداواة الأكمه والأبرص.
وكذلك نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتجاريد الشّعراء، فأتاهم بكتاب من عند الله عزّ وجلّ، فاتّهمه أكثرهم أنّه اختلقه وافتراه من عنده فتحدّاهم ودعاهم أن يعارضوه ويأتوا بمثله وليستعينوا بمن شاءوا فعجزوا عن ذلك كما قال تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً )، وكما قال الله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ* فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ ). ثمّ تقاصر معهم إلى عشر سور منه، فقال في سورة هود( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).
ثمّ تنازل إلى سورة فقال في سورة يونس: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)، وكذلك في سورة البقرة وهي مدنيّة أعاد التّحدّي بسورة منه، وأخبر تعالى أنّهم لا يستطيعون ذلك أبدا لا في الحال ولا في المآل. فقال تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ).
وهكذا وقع، فإنّه من لدن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإلى زماننا هذا لم يستطع أحد أن يأتي بنظيره ولا نظير سورة منه، وهذا لا سبيل إليه أبدا، فإنّه كلام ربّ العالمين الّذي لا يشبهه شيء من خلقه لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فأنّى يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق؟
وقد انطوى كتاب الله العزيز على وجوه كثيرة من وجوه الإعجاز: ذلك أنّ القرآن الكريم معجز في بنائه التّعبيريّ وتنسيقه الفنّيّ باستقامته على خصائص واحدة في مستوى واحد لا يختلف ولا يتفاوت ولا تتخلّف خصائصه.
معجز في بنائه الفكريّ وتناسق أجزائه وتكاملها، فلا فلتة فيه ولا مصادفة، كلّ توجيهاته وتشريعاته، تلتقي وتتناسب وتتكامل وتحيط بالحياة البشريّة وتستوعبها وتلبّيها وتدفعها دون أن تتعارض جزئيّة واحدة من ذلك المنهاج الشّامل الضّخم مع جزئيّة أخرى، ودون أن تصطدم واحدة منها بالفطرة الإنسانيّة أو تقتصر عن تلبيتها، وكلّها مشدودة إلى محور وإلى عروة واحدة في اتّساق لا يمكن أن تفطن إليه خبرة الإنسان المحدودة.
معجز في يسر مداخله إلى القلوب والنّفوس ولمس مفاتيحها وفتح مغاليقها واستجاشه مواضع التّأثّر والاستجابة فيها.
{ أستاذ التفسير وعلوم القرآن
كلية الشريعة جامعة قطر
copy short url   نسخ
27/08/2020
447