+ A
A -
داليا الحديدي
ثمة قلوب يسكنها الحزن كالمقابر، ونفوس لا تجاور سوى الأعياد.
وثمة عقول تقسم على ارتداء دثر الخيبة، لكن أخرى، لا ترضى سوى ببشت الحكمة رداء.
كم من أفئدة اعتنقت تخليد اليأس في الصدور وأرواح احترفت الشقاء.
على أن ثمة ضمائر أضمرت نشرت الخير في بقاع الأرض ونثرت الحب لطير السماء.
ومن أفدح ما يصاب به المرء فجيعته في الإخفاق في تحقيق مراده، فهناك أعداد طائلة من البشر يأتون ويفنون دونما أدنى بحث عن كنوز الذات، فجل آمالهم الأكل من خشاش الأرض، بل ويتفاخرون باضمحلال طموحاتهم، بل يريدون إقناعنا أنهم يتمتعون بنوع من الزهد.
والناس قد يفهمون بالأثر النفسي ما لا يفهمونه بحواسهم. وأقسى ما يستطيع إنسان أن يعيه هو يقينه أنه مهما أنفق من عمره إلا أن قدراته لن تطال طموحاته وأن قدراته لن تسعف أهدافه.
هنالك تتعملق خيبة الإنسان بل تتغول حين يفجع بالإخفاق في بلوغ مرامه، كمن حسب نفسه مشروع أديب وهو حتى ليس بناثر، أو كعازف الكمان في رائعة دوستويفسكي «ذكريات طفلة» الذي تنبأ أن سيمفونياته ستفوق أعمال «فاغنر» ثم لا يلتفت إليها شرق ولا غرب، فانتحر.
فعدد كبير من البشر تضيع منهم حقب من حياتهم، دون معرفة نقاط قوة شخصيتهم، فيعيشون دونما التفاتة لأهمية البحث عن ثروات ذاتهم، اللهم ثم تمضي بهم الحياة، فيدرسون بل ويتخرجون ومعهم شهادات علمية لم تشهد لهم بأحقيتهم في عمل يضمن لهم مجرد حياة كريمة.
فندر من الأهل من تؤهله قدراته للالتفات للتنقيب عن مواهب أبنائه. فجهود الآباء تجاه أبنائهم لا تتعدى إحاطتهم بالرعاية والتغدية والتعليم النظامي بحيث ودوا لو يحممونهم بعطر وينشفونهم بنور ويغلفونهم باستبرق ويركبونهم بسطاً سحرية. على أن نتائج هذه العناية الفائقة لا تسفر إلا عن شخصيات منمطة.
أما تاريخ الناجحين فيشهد على أنهم حادوا عن السطر، وثقبوا الصندوق العائلي ورفضوا الانصياع لحياة النمط المثالي الملكي التي يستيقظون فيها باكراً وينامون كالداجن قبيل العشاء.
فالنوابغ تهيأت لهم مساحة من الحرية لو لم تتوفر، لابتدعوها ولربما حاربوا من أجل اقتناصها، وبالطبع فقد دفعوا ثمناً باهظاً لها.
هذه المساحة من الحرية منحتهم إمكانية البحث عن الجوانب المضيئة في شخصياتهم وعما يريدون هم لا أهلهم من الحياة وأي طريق يسلكون، كما سمحت لهم باقتراف الأخطاء وتصويبها ثم المزيد من الأخطاء التي تنجب صوابات نتيجة زخم التجارب.
بعضهم عافر ونافر أهله.. قلة وجدوا الدعم، إلا أنهم جميعا ضاعفوا الجهد.
ولقد ورد عن توفيق الحكيم في كتابه «زهرة العمر» أنه لم يوفق في الحصول على الدكتوراه في الحقوق واعترف بأنه عاش فشلاً مدوياً في حياته كونه فعل كل ما لم يرض والده وكل ما جعله يفشل في امتحانات الدكتوراه؛ فقد كان يقضي وقته بين زيارة المتاحف الفرنسية في الآحاد، كما كان يحضر مسرحيتين كل أسبوع، بالإضافة لحضوره حفل موسيقى، عدا مصاحبة الفنانين والنقاد.
وقد أخفق الحكيم في نظر والده كونه لم يصبح محاميا حاصلا على دكتوراه إلا أنه خلد اسم عائلته في أدبيات الفكر والأدب العالمي.
لقد آمن بنفسه وأعطى لها حق الخطأ وحق اختيار الطريق، فوصل.
لقد قيل للفنان عبدالوهاب من بعض أقاربه المحافظين: اترك الموسيقى فإنها حرام، فكان يجيبهم بثبات:
سألوا حكيم، أي أنواع الموسيقى حرام؟
قال صوت الملاعق في صحون الأغنياء عندما ترن في آذان الفقراء.
المشكل أن أولادنا يريدون حرية مفتوحة لمتابعة الانترنت الألعاب والفضائيات ولا هم لهم أبدا لا بمسارح ولا بموسيقى ولا بآداب أو شعر.
قلة من البشر تجد الجرأة في نفسها للتمسك بموهبتها. فكن مع نفسك وأنصف حالك ولا تمل التنقيب عن السبل حتى تصل لدرب التفوق فتسكنك السعادة كما الأعياد.
copy short url   نسخ
15/08/2020
454