+ A
A -
سليمان قبيلات كاتب اردني
على امتداد قرن، و«تينة أبو حجيلان» تزين الحارة القديمة في قريتنا مليح في وسط الأردن. تتثاءب طويلا، لكن النوم لا يطاوع جفنيها المُسهدين. حزنها يتعاظم وشقاؤها يتكاثر كفطر بري بعد رعد. أراها اليوم، وقد ملّت غابة اسمنت تحيطها احاطة السوار بالمعصم. كانت وحيدة القرية ومدللتها، ومهوى الافئدة وقبلة الناظرين. محظوظا كان من يناديه ذاك الحجازي ليعطيه تينا بقوله «تفضل عالخير يا لاقي الخير». كان حجازيا طيب المعشر سمح الوجه والمحيا، ربعة في طوله، يمشي بخطى وئيدة، وكان هذا دأبه حتى في الملمات. عاش في قريتنا ردحا من الزمن تجاوز خمسة عقود. لكن قلبه ومن قبله قلب أبيه كانا مشدودين إلى الجنوب ترقباً للحظة العودة إلى بلادهما في الجزيرة العربية. عاد أبو حجيلان بعد ان اصبحت «الجزيرة» جاذبة للباحثين عن حياة ومال اكثر مما هو متاح في بلادنا بكثير. جاء أبوه حسبما روى الكبار على راحلته مع رهط من الحجازيين الساعين لكلأ ابلهم بعد ان أجدبت بلادهم سنين طويلة فاضطروا للهجرة بها إلى الشمال حتى بلغوا مليح. احب الحجازي صالح أبو حجيلان مليح لطيب معشر ناسها وحنوهم عليه وولده الوحيد محمد الذي نقل انه رحل عن الدنيا قبل سنين قليلة في مدينة الرياض.
وفي ثنائية تحكي سيرة الزمن في القرية تتقابل «تينة أبو حجيلان» مع الدار الكبيرة«، التي ما يزال بابها يثير دهشتي بصموده أمام عاديات الزمن والمتغير. أزور المكان احيانا لأتأمله، ليحكي حكايات الراحلين من اهل وناس وزمن جميلين.
قالوا ان رأيهم استقر بعد شتوة وثلجة عانوا خلالهما الكثير على تشييد دار قبالة شجرة الحجازي صالح لتكون ملاذا ومكانا يلتم شملهم فيه. نقلوا ان احدا عارض فكرة الانشاء دون ان يدفع ببديل، مكتفيا بقوله «هذي حياتنا وحياة ابهاتنا وش نسوي»، ودفعوا حججا من مثل ان ذلك «كار مو كارنا».
وليكون رأيهم مؤثرا قال المعارضون ان في فكرة الدار تشبها بأهل مادبا التي كانوا يسافرون اليها على رواحلهم في ذهابهم إلى «بابور الطحين» والتسوق من عند «جميل الضباعين» و«جريس الزوايدة». كانوا يبتاعون الحلاوة و«الكعيكبان» والسكر و«حامض حلو» والملبوسات.
تبدو «تينة أبو حجيلان» ذاكرة لا تقبل التواطؤ مع النسيان، فهي ملمح مليء بحساسية مفرطة حيال المستجد غير القابل للتبلور معلما اصيلا.
في الأثناء يدفعني شغف القص إلى الغوص في ذاكرة جمعية للناس، لكني أتردد عن مواصلة الرحلة فأتوقف خشية مناطق مسكوت عنها عبر عقود، لأكتشف انني فشلت في نزع صاعق الكتابة والولوج إلى تلك القصص وتفجيرها في مسعى لاماطة اللثام عن مواقف مجتمع التينة حيال الحرمان والانتظار والحلم والتناقضات في تجليها المجتمعي البسيط والمعقد معا.
كانت سويعات الاياب من مدينة مادبا فرصة للتداول في شؤون حياتهم وحسمها بنفوس راضية، ذات اياب كان الجو صحوا والسماء صافية وصمت الطبيعة البكر لا يبدده الا وقع مسير رواحلهم في طرقات كانت تندثر معالمها لقلة السائرين، قال علي الذي خبر الارتحال بعيدا عن القرية وفضاء سهولها المنفتحة على الصحراء شرقا: نحن نمارس الضجر ونجهد لنحصل على اقل القليل. وتساءل: وسط هذه الإكراهات التي نعيش لم لا نرحل بعيدا؟، إلى الشمال أو ما هو أبعد؛ لنختار القدس وأرض فلسطين بدل هذا الجدباء.
وحيال صمت مرافقيه مضى مستسرلا: في مشقة نحاول ان نعيش وهناك جباة ستوفدهم حكومة عمان بعد الحصاد، وسيقضي طمعهم على أحلامنا في بيادر ومحصول ننتظره طيلة العام.
كان علي يعبر عن طور جنيني لمقاومة ضد ابتلاع وقضم مارسه مرابون ومندوبو حكومة لا يظهرون الا وقت البيادر، كان يقاوم بقاء يعني تلاشيا في مكان لم تختلف حياتهم فيه عن حياة سابقيهم، شظف عيش واستلاب وغلظة كانت سيماء هذه الحياة.
كان مجتمع التينة ينتظر من يملأ الكلمات المجوّفة ممارسة أو محاولة ليخرج عن السياق الممتلئ تواطؤا، كان يلقي اسئلة ما تزال تنتظر إجاباتها حتى اليوم !
copy short url   نسخ
14/08/2020
323