+ A
A -
قرطبا - أ. ف. ب - منذ أسبوع، لم تذق ريتا طعم النوم في انتظار أن تسمع خبراً عن ابنها وابن عمّه وزوج ابنتها، ثلاثة شبان من فوج إطفاء بيروت كانوا أول من وصلوا إلى المرفأ ولم يعودوا منه، بألم يعتصر قلبها، تردّد «قطعة، قطعتان.. نريد أولادنا» لدفنهم. في منزل عائلة حتّي في بلدة قرطبا الجبلية شمال شرق بيروت، يخيّم الوجوم على وجوه متعبة أضناها الحزن، في صالون المنزل ذي القناطر الحجرية وعلى شرفته الواسعة، يتجمع عشرات الأشخاص من أفراد العائلة والجيران والأصدقاء: سيدات لا ينطقن بكلمة ورجال يهمسون بأحاديث جانبية وشبان يقفون على الطريق خارج المنزل.
على جدار قرب المدخل، رفعت صورة عملاقة لثلاثة شبان وسيمين بزي رسمي هم نجيب حتى (27 عاماً) وابن عمّه شربل حتى (22 عاماً) وزوج شقيقته شربل كرم (37 عاماً)، مذيّلة بتعليق «الأبطال»، في خلفية الصورة انفجار المرفأ وثلاثة إطفائيين يحاولون إخماد النيران.
قبل وقت قصير من دوي الانفجار الضخم الذي دمّر مرفأ بيروت وأجزاء كبيرة من العاصمة، وقتل 160 شخصاً وأصاب ستة آلاف آخرين بجروح، تلقى فوج إطفاء بيروت اتصالاً عن اندلاع نيران في المرفأ الذي يبعد دقائق عن مركزهم، استقّل عشرة من عناصر الفوج سيارتي إطفاء وهرعوا إلى الموقع، من دون أن يعلموا ما ينتظرهم داخل العنبر 12.
وهرع جورج حتى، والد شربل وعمّ نجيب إلى موقع الانفجار ليل الثلاثاء بعدما تيّقنوا أن الشبان الثلاثة كانوا في عداد الفوج الذي توجّه إلى المرفأ.
ويروي جورج لفرانس برس «بدأت أصرخ يا نجيب، يا شربل.. كنت كالمجنون، في النهاية بدأت أبكي.. بقينا حتى السادسة صباحاً ننتظر إشارة عمّا حصل» من دون جدوى.
وينقل جورج عن عنصر أمن كان موجودا في المرفأ لحظة وصول فوج الإطفاء ونجا بأعجوبة من الانفجار، أن «عناصر الإطفاء لم يعثروا على مفتاح باب العنبر فحاولوا خلعه»، وفي هذه الأثناء، وقع الانفجار.
بعد بحث لثلاثة أيام، قطع جورج الذي يخفي عينيه خلف نظارات شمسية سوداء ويحاول أن يبقى متماسكاً، الأمل بنجاتهم. لكنّ الأمهات كنّ «يحتفظن بالأمل»، على حد قوله، بينما جلست قربه زوجته سناء تنساب دموعها ولا تقوى على الكلام.
وعثرت فرق الإنقاذ على جثتي عنصرين على الأقل من فوج الإطفاء.
قبل ثلاثة أيام، تمّ العثور على دفتر قيادة يعود لنجيب حتى الذي يقود إجمالا سيارة الإطفاء، وعلى أشلاء يُفترض أن تُحدّد هوية أصحابها في اليومين المقبلين.
بحرقة وانفعال، تتحدّث ريتا حتّي (48 عاماً) التي وضعت طوقاً طبياً حول عنقها عن ساعات انتظار مضنية. وتقول «ستة أيام ونحن ننتظر أشلاء أولادنا».
وتضيف «قطعة، قطعتان... نحن راضون، نريد أولادنا فقط» لتنظيم دفن لائق تريده أن يكون بمثابة «حفل زفاف».
على الأريكة قربها، جلست ابنتها كارلن المفجوعة بزوجها وشقيقها وابن عمّها في آن، تحاول أن تكتم دموعها حيناً وتهدّئ روع والدتها حيناً آخر، من دون أن تنطق بكلمة.
أعرف رائحتهم
وتتابع ريتا أن أفراد العائلة أرادوا الدخول إلى موقع الانفجار ولم يسمح لهم، «قلت لهم أعرف أولادي من رائحتهم، دعونا ندخل لنبحث عنهم، عندما نشتمّ رائحتهم سنعرف مكانهم».
وتضيف «نحترق في النهار مائة مرة.. ومليون مرة كما أحرقوا أولادنا هناك في المرفأ».
وعلقت الوالدة المفجوعة على قميصها شارة مستديرة عليها صورة الشبان الثلاثة، ووسط دموعها تقول بسخط «بأي حقّ يفعلون ذلك؟. أعطيناهم أبطالاً وأعادوهم إلينا شهداء، شهداء ماذا؟ عمّا دافعوا؟ عن موبقاتهم (المسؤولين) التي خبأوها في المرفأ؟».
ثم تجيب بغضب «أولادنا ذهبوا شهداء الغدر».
ونجم الانفجار، وفق السلطات، عن حريق في عنبر تمّ تخزين 2750 طناً من مادة نيترات الأمونيوم فيه قبل ست سنوات. ويتقاذف المعنيون الاتهامات بالمسؤولية عن وجودها من دون أي «تدابير وقاية».
وتشكو عائلات حوالي عشرين شخصا لا يزالون بين المفقودين منذ الانفجار أن أي جهة رسمية لم تتصل بهم أو تبلغهم بما حصل، أو حتى تؤاسيهم.
على وسائل الإعلام وعبر الإنترنت، في الشوارع والأحياء المتضررة وداخل سيارات الأجرة، يتكرّر على لسان المواطنين الغاضبين السؤال ذاته «أين الدولة»؟.
في قرطبا على بعد 55 كيلومتراً من بيروت، تقول مايان ناصيف، قريبة الشبان الثلاثة، لفرانس برس «كل ما نعرفه يصلنا عبر جهد خاص وعلاقات العائلة. لم نتلق أي معلومة رسمية ولم تتابع معنا أو تتصل بنا أي جهة من الدولة».
ويقول الوالد المحروق على ابنه ورفاقه إن المطلوب اليوم هو «تحقيق دولي» في الانفجار «لأن لا ثقة لنا أساساً بالدولة».
لكن قبل ذلك، جلّ ما يتمنّاه أن «تأتي فحوص الـ دي أن إيه مطابقة لشربل ونجيب وشربل»، ويضيف بحرقة «تخيّلي ماذا أصبحنا نتمنى؟... ننتظر أن يصل الشباب حتى نقيم لهم عرساً، لن نقيم لهم مأتماً».
copy short url   نسخ
12/08/2020
332