+ A
A -
د. محمدزكي عيادة
إنَّ الشعورَ الذي داهمكَ حينَ لمحتَ العنوانَ والفُضولَ الذي ساقكَ لمعرفةِ هذا الخبرِ العاجلِ هو ذاتهُ الشعورُ الذي يكابدهُ الموظَّفُ حينَ يتلقَّى شيئا كهذا وبخاصّةٍ بعدَ أوقاتِ الدوامِ، وأضِفْ إلى الفُضولِ شعورَهُ بالتشتَّتِ والقلقِ! إنَّها ظاهرةٌ تتجدَّدُ في يوميَّاتهِ؛ فتربكُ أوقاتَهُ العامَّةَ، وتُنغِّصُ حياتَهُ الخاصَّةَ!
فاختيارُ العنوانِ والتوقيتِ حقٌّ مكتسبٌ للمديرِ والنائبِ والسكرتيرِ وغيرهم من دونِ قيودٍ تُذكَر! وما على الموظَّفِ إلَّا الاستعدادُ الدائمُ! فقدْ ينتفضُ هاتفهُ في أيّ لحظةٍ! وكأنّهُ إنذارٌ يستوجبُ إخلاءَ الذِّهنِ؛ ليتفرَّغَ للطَّلبِ العاجلِ!
ولا يقتصرُ الأمرُ على العاجلِ منَ الطلباتِ، فقدْ تكونُ رسائلَ تذكيرٍ، أو تنبيهٍ، أو إسنادِ مهامٍ، تأتي أطرافَ الليلِ أو معَ طلائعِ الفجرِ بحسبِ حالِ الـمُرسِلِ ومزاجهِ وأوقاتِ نومهِ وفراغهِ! وجُلُّها طلباتٌ قابلةٌ للتأجيل!
ولإنصافِ المنطقِ لا تُنتقدُ في ذلكَ الوظائفُ الأمنيةُ إذا ما اقتضتِ الضرورةُ، ولكنْ أيصحُّ أنْ يكونُ هذا ديدنُ المؤسساتِ الإداريةِ، وبخاصَّةٍ التعليميةِ منها؟ تلكَ المعنيةِ بتقويمِ سلوكِ المجتمعِ، وتوعيةِ أفرادهِ، وترقيةِ علاقته!
«لا تأخذْ عملكَ إلى البيتِ وإلَّا ستدفعُ الثَّمنَ باهظًا» إنَّهُ عنوانُ دراسةٍ منشورةٍ لجامعةِ (زيورخ) الألمانية، خلصتْ إلى أنَّ الخلطَ بينَ العملِ والحياةِ الخاصَّةِ يحُولُ دونَ حصولِ الموظّفِ على قدرٍ كافٍ من الراحةِ، ويقلِّلُ من إنتاجهِ وإبداعهِ في العملِ؛ ولذلكَ شرعتِ الحكومةُ الألمانيةُ بسَنِّ قوانينَ تمنعُ أصحابَ العملِ من الاتصالِ بموظفيهم خارجَ أوقاتِ الدِّوامِ بهدفِ حمايةِ نفسياتهم واحترامِ خُصوصياتهم.
وفي جامعةِ (فرجينيا) الأميركية أظهرتْ دراسةٌ أخرى أنَّ تركَ أوقاتِ العملِ مفتوحةً؛ يزيدُ من مستوياتِ التوتُّرِ، ويجعلُ الموظَّفينَ أكثرَ عُزلةً، ويؤثِّرُ سلبًا على إيقاعِ حياتهم الاجتماعيةِ، وغيرها الكثيرُ من الدراساتِ التي دفعتْ دولًا عدَّةً إلى سَنِّ قوانينَ تضمنُ الفصلَ الكاملَ بينَ العملِ والحياةِ الخاصَّةِ للموظَّف.
وممَّا لا شكَّ فيهِ أنَّ الخوضَ في مثلِ هذا الحديثِ في الشَّرقِ ضربٌ من الرفاهيةِ، أو محلَّ تهكُّمٍ وسُخريةٍ! فالوظيفةُ أشبهُ بحُلمٍ ورديٍّ! يمثِّلُ في ثقافةِ المجتمعِ الأمانَ والضمانَ ووسيلةَ العيشِ بسلامٍ، والموظَّفُ مُبرمجٌ على تقبُّلِ الأعباءِ، وحتى إنْ فكَّرَ بتركِ العملِ؛ غالبًا ما سيعودُ، ويحلمُ بهِ منْ جديدٍ؛ لضيقِ الخياراتِ أمامَهُ، وقسوةِ الظروفِ من حولهِ!
إنَّ من التحدِّياتِ البارزةِ التي باتَتْ تؤرِقُ الموظَّفَ في هذا العصرِ (عصرِ التكنولوجيا والفضاءِ المفتوحِ) هو ذوبانُ الحدودِ الفاصلةِ بينَ العملِ والحياةِ الخاصَّةِ، وتغلغلِ همومِ الوظيفةِ في العلاقاتِ الأُسريةِ والاجتماعيةِ، تلكَ الأسرةِ التي تنتظرُ عودةَ مُعيلها بلهفةٍ؛ ليفُكَّ طلاسمَ مشاكِلها، ويحُلَّ عُقدَ التزاماتِها، ويُؤمِّنَ قيمةَ الفواتيرِ وقوتَ العصافيرِ، هذا إنْ كانَ قريبًا من أُسرتهِ، فما بالُ هُمومِ مَن تفصلهُ عنها المسافاتُ والسُّنون؟!
ما أحوجنا إلى التخطيطِ السَّليمِ، والاستثمارِ الفعَّالِ لساعاتِ العملِ الرسميةِ، وتبنِّي ثقافةِ احترامِ الخصوصيةِ؛ كي تصفو الأذهانُ، وتعلو الهِممُ؛ فنحيا روعةَ الهَدي النَّبويِّ: «إنَّ لنفسِكَ عليكَ حقًّا، ولربِّكَ عليكَ حقًّا، ولضَيفِكَ عليك حقًّا، وإنَّ لأهلِكَ عليكَ حقًّا، فأَعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه».
وهل يتأتَّى أداءُ الحُقوقِ، وجُودُ العطاءِ بغيرِ الصَّفاءِ وتنظيمِ الحياة؟ فاللهَ اللهَ في حُسنِ الإدارةِ، وجَميلِ العِبارةِ، وأوانِ الرِّسالةِ... أشياءٌ صغيرةٌ، لكنَّها تُحدِثُ فرقًا.
[email protected]
copy short url   نسخ
11/07/2020
3057