+ A
A -
عمر كوش كاتب وباحث سوري
حملت التطورات أخيرا في ليبيا تغيرات في المشهد الجيوسياسي، استدعتها تحولاتٌ في موازين القوى لصالح قوات حكومة الوفاق الوطني على حساب تقهقر قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر وخسارتها مناطق عديدة في غربي ليبيا. وكان الدعم التركي لصالح حكومة الوفاق المحرك الرئيسي لهذه التطورات، الأمر الذي بعثر حسابات الدول المتدخلة في ليبيا وأوراقها، وفي مقدمة هذه الدول فرنسا التي باتت الخاسر الأكبر، فيما اضطرّت إيطاليا إلى تغيير موقفها والميل للتفاهم مع تركيا، كي تحافظ على مصالحها في ليبيا، خصوصا بعد استيائها من الموقف الفرنسي الهادف إلى الاستحواذ على النفط الليبي.
وعلى الرغم من الدور الفرنسي التاريخي في بلدان المغرب العربي والتنافس مع الدور التركي، إلا أن تركيا استطاعت فرض نفسها بقوة في الملف الليبي، من خلال إبرامها اتفاقيتي تعاون عسكري وبحري مع حكومة الوفاق في نوفمبر الماضي، وأعطى ذلك الضوء الأخضر للتدخل العسكري التركي، وهو ما نفذته أنقرة عبر إرسال معدّات عسكرية وقوات تركية وأخرى من مقاتلي المعارضة السورية الموالين لها، والذي أفضى إلى تغيير في مسار المعارك، حيث لم يعد الدعم الفرنسي والروسي والإماراتي والمصري قادراً على تغيير موازين القوى في ليبيا، بعد خسارة حليفهم حفتر معظم الأراضي التي كسبها من قبل، وباتت تركيا وروسيا تتقاسمان النفوذ الأكبر في ليبيا، وفي مناطق أخرى من الشرق الأوسط.
وأفضى تنامي الدور التركي إلى إضعاف الدور الفرنسي، وإلى توتر العلاقات التركية الفرنسية، خصوصا بعدما شنّ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، هجوماً عنيفاً على تركيا، واتهمها بممارسة «لعبة خطيرة» لا يمكن التسامح معها، الأمر الذي أثار غضب الساسة الأتراك، وفي مقدمتهم الرئيس رجب طيب أردوغان. ثم شهد التوتر بين باريس وأنقرة مزيداً من التصعيد على خلفية استنكار باريس ما وصفته «بالعدوان المتطرّف» الذي قامت به سفينة تركية ضد سفينة بحرية فرنسية خلال مشاركتها ضمن مهام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في البحر الأبيض المتوسط، وتقدّمت بشكوى ضد تركيا إلى الحلف. وقوبل الاتهام الفرنسي بنفي تركي اعتبره أمراً «لا أساس له من الصحة»، حيث اتهم المتحدث باسم الرئيس التركي، إبراهيم قالن، فرنسا بأنها «تدعم أمير حرب غير شرعي، وتقوّض أمن حلف الناتو»، ثم وصف المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية، حامي أكسوي، كلمات الرئيس الفرنسي بأنها «لا يمكن تفسيرها إلا على أنها كسوف للعقل»، وقال إن الدعم التركي موجه للحكومة الشرعية في ليبيا، ويتماشى مع قرارات الأمم المتحدة. وفي سياق ذلك، اعتقلت السلطات التركية أربعة أتراك للاشتباه في تجسسهم لصالح فرنسا، عن طريق اتهامهم بجمع معلومات عن الجماعات المتطرفة دينياً في تركيا.
ولم يوفر الساسة الفرنسيون فرصةً لمهاجمة تركيا بسبب تنامي دورها في ليبيا، وفي مياه البحر الأبيض المتوسط، حيث تصرّ تركيا على استمرارها في التنقيب في مياهه المتنازع عليها، فيما تعتبر فرنسا أن تركيا تعمل على «إعادة الخلافة العثمانية» إلى بلدان شمال أفريقيا، ما يشكل «تهديداً استراتيجياً» لمصالحها ومصالح دول أوروبا الجنوبية القريبة من الشواطئ الليبية.
ويأتي تزايد الخلافات التركية الفرنسية في وقتٍ لا تحتاج فيه العلاقات بين تركيا وفرنسا إلى مزيد من التوتر، إذ كانت، في معظم الأوقات، ليست على ما يرام، على الرغم من أن البلدين عضوان في حلف شمال الأطلسي، نظراً إلى تراكم الخلافات بينهما بشأن قضايا عديدة، وخصوصا في الملف السوري، على خلفية دعم فرنسا ميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) الذي تعتبره أنقرة ذراعاً لحزب العمال الكردستاني، المصنف منظمة إرهابية لديها، وبالتالي يأتي الخلاف بينهما في الملف الليبي ليزيد من تردّي العلاقات بين البلدين.
ويرى الساسة الأتراك أن فرنسا تمارس سياسة استعمارية، وأن الغضب الفرنسي يعبّر عن خيبة أمل داعمي قوات حفتر من خسائرها الأخيرة، ووصول قوات حكومة الوفاق الوطني المدعومة من تركيا إلى مدينة سرت وقاعدة الجفرة، بوصفهما موقعين مهمين بالنسبة إلى فرنسا، من حيث النفط والعاز وسواهما من الموارد الطبيعية الليبية التي تريد فرنسا أن تسيطر عليها، تحت ذرائع جلب الحرية إلى ليبيا.
{ عن (العربي الجديد)
copy short url   نسخ
10/07/2020
534