+ A
A -
د. فاطمة سعد النعيمي
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
المسؤوليّة تعني كون الفرد مكلّفا بأن يقوم ببعض الأشياء وبأن يقدّم عنها حسابا إلى غيره وينتج عن هذا التّحديد أنّ فكرة المسؤوليّة تشتمل على علاقة مزدوجة من ناحية الفرد المسؤول بأعماله وعلاقته بمن يحكمون على هذه الأعمال، والمسؤوليّة قبل كلّ شيء هي استعداد فطريّ، إنّها هذه المقدرة على أن يلزم الإنسان نفسه أوّلا، والقدرة على أن يفي بعد ذلك بالتزامه بوساطة جهوده الخاصّة.
يراد بالمسؤوليّة أيضاً الشّعور بأداء الواجب والإخلاص في العمل وليست المسؤوليّة مجرّد الإقرار، فإنّ الجزم بالشّيء لا يعطي صفة المسؤوليّة وإنّما يجد المتحسّس بها أنّ هناك واجبات لا بدّ من الانقياد إليها بغضّ النّظر عن النّتائج، فإنّ إنقاذ الغريق ممّا يشعر الشّخص بالمسؤوليّة في إنقاذه إذا كانت له القدرة على الإنقاذ وإنّ دفع الظّلم ممّن له القدرة على دفع الظّلم يجب على ذلك الشّخص أن يدفع عن المظلوم وهو مسؤول عن التّرك، فالمسؤوليّة تختلف بلحاظ الأفراد وبلحاظ المجتمعات.
وقد قرّرها القرآن في آيات كثيرة، فقال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) وقال تعالى:(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) وقال تعالى: (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). وقرّر القرآن أنّ شرط هذه المسؤوليّة الشّمول: من ناحية الفرد يقول الله تعالى:( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) وقوله تعالى:( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ). ومن ناحية الأعمال الخيّرة والشّرّيرة صغيرة وكبيرة.. ظاهرة وخفيّة: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ). ومن ناحية الأقوال والألفاظ سرّها ونجواها. يقول الله تعالى: (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).
ومن ناحية السّمع والبصر والملكات: يقول تعالى: (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا). ومن ناحية النّعيم والمال: (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ). وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزول قدما عبد حتّى يسأل عن عمره فيم أفناه. وعن شبابه فيم أبلاه. وعن علمه فيم عمل فيه. وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه؟».
أما عن أنواع المسؤولية: فالمسؤوليّة الدّينيّة: هي التزام المرء بأوامر الله ونواهيه، وقبوله في حال المخالفة لعقوبتها ومصدرها الدّين. والمسؤوليّة الاجتماعيّة: هي التزام المرء بقوانين المجتمع ونظمه وتقاليده.
وقيل: هي المسؤوليّة الذّاتيّة عن الجماعة، وتتكوّن من عناصر ثلاثة هي: الاهتمام والفهم والمشاركة.
أما المسؤوليّة الأخلاقيّة: هي حالة تمنح المرء القدرة على تحمّل تبعات أعماله وآثارها، ومصدرها الضّمير.
وكلّ مسؤوليّة قبلناها، وارتضينا الالتزام بها فهي مسؤوليّة أخلاقيّة بدليل: أنّ القرآن يقدّم المسؤوليّة الدّينيّة ذاتها في صورة أخلاقيّة محضة حين تحايل بعض النّاس على التّخلّص من بعض تعاليم الصّوم سرّا: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ).
والقرآن لا يكتفي بتذكير النّاس في كثير من الأحيان بالأمر الإلهيّ، وإنّما يذكّرهم بالعهد الّذي قطعوه على أنفسهم، يقول الله تعالى: (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). وقوله تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).
فالمسؤولية تشعر بوجوب أداء الأمانة أمام الله وأمام النّاس؛ ويشعر الشّخص المسؤول بالسّعادة تغمره كلّما قام بتنفيذ عمل نافع، وكلّ مسؤول بقدر استطاعة تحمّله ولا يخلو أحد من المسؤوليّة مهما قلّت منزلته في المجتمع.
* أستاذ التفسير وعلوم القرآن
كلية الشريعة جامعة قطر
copy short url   نسخ
08/07/2020
1240