+ A
A -
نجوى اسماعيل صحفية لبنانية
لم يكن عمري يتجاوز الست سنوات حين نظرت من خلال الثقب المدوّر لباب بيتنا الحديدي في القرية إلى الساحة الكبيرة أمام البيت، لأجدها خالية إلا من مئات الرصاصات التي تغطي أرضها، كنت أعرف أن هناك معارك تجري تجبر الأهالي على الاختباء في بيوتهم، لكنني لم أكن أفهم الكثير عن تلك المعارك، كنت أعرف أن إسرائيل هي عدو لبنان، ورغم أنني ولدت في العام نفسه للاجتياح الاسرائيلي وهو العام الذي استشهدت به جدتي جراء العدوان، إلا أنني لم أفهم كيف تخلى العدو عن طيرانه وصواريخه وقذائفه واختار أن يحارب على الأرض بواسطة رشاش!
بعد أن كبرت قليلًا فقط، أدركت أن ذلك القتال لم يكن بين عدوّنا وبين شرفائنا، بل كان بين اللبنانيين أنفسهم، أحزاب تتنازع على السلطة، وفي الجانب الآخر من الوطن، حروب أكثر دموية، بين فئات يقودها أمراء حربٍ، يذهب ضحيتها كل يوم عشرات الأبرياء.
وتنتهي الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت من العام 1975 حتى العام 1990، ويدفن الشهداء ولا تجف دموع أمهاتهم، ولكن الحقيقة الأكثر حماقة في التاريخ، هي أن أمراء الحرب يعودون أقوى مما سبق، فيحتلون أعلى المناصب في الدولة، ويكملون مسيرة قتل الوطن، بالنهب والفساد والسرقة، والمفارقة، أن أتباعهم هم من اللبنانيين أنفسهم، الذين أُوقفوا على الحواجز العسكرية، ودمرت بيوتهم، ووقفوا في طوابير المخابز واختبؤوا في الملاجئ!
نحن اللبنانيين، نعاني من تلف في خلايا المخ المسؤولة عن التذكر، لقد قمنا بخيانة ذاكرتنا قبل أن تخوننا، فإذا بنا ندفع ثمن هذا التلف الذي كلما توسع، هللنا أكثر، ومع التلف المستشري في أدمغتنا، سوف نصفق أكثر، حتى تتلف أيدينا، وحتى يأكلنا الجوع والمرض والذل، ونموت فداءً لمن يقتلنا منذ أكثر من أربعين عامًا!
لقد شهد أهالينا كيف ينهار بلد ما في ظل الحروب والسلاح، ويشهد جيلنا اليوم كيف ينهار الوطن بسبب الجوع والفقر.
وما بين الأب الذي كان يقف في طابور الخبز أمام الأفران في زمن الحرب الأهلية والابن الذي يقف اليوم في الطابور نفسه ينتظر دوره للحصول على رغيف الخبز، لا شيء تغيّر، ولو استمر الحال هكذا، ولم نتعالج من مرض الزهايمر الطوعي، فإن الأمل بألا يقف أبناؤنا في هذه الطوابير بعد عقود، سيكون ضعيفًا جدًا، لأننا نورث جيناتنا إلى أولادنا، فتنتقل إليهم عيوبنا الخلقية، وعلى الأرجح، سيصاب الكثير منهم بتلف في أدمغتهم، فيعجزون كما عجزنا عن التذكر، وعندها لن يكون هناك وطن اسمه لبنان إلا في ذاكرة خريطة الكرة الأرضية!
copy short url   نسخ
08/07/2020
399