+ A
A -
زاد تردّي الأوضاع الاقتصادية في لبنان إلى مستويات غير مسبوقة من رغبة شباب البلاد في مغادرة بلادهم والهجرة إلى بلدان يستطيعون فيها تأمين تكاليف حياتهم اليومية، لهم ولعائلاتهم، في وقت تعجز فيه الحكومة عن وضع حد لتدهور مستوى المعيشة، في ظل عيش نحو 60 % من السكان في الفقر، بحسب البنك الدولي.
يُعد لبنان بلد ملايين المهاجرين في مختلف قارات وأصقاع العالم، وبينما يتجرع سكانه أوجاعاً اقتصادية طاحنة فإن الهجرة تصبح خياراً إجبارياً لبعض سكانه، فخلال الأشهر الماضية شهدت عدة سفارات أجنبية في لبنان، أبرزها الكندية، وقفات احتجاجية من قبل شباب لبنانيين للمطالبة بفتح أبوابها للهجرة.
من جانبهم، يرجح مراقبون أن تشهد الأيام الأولى لعودة حركة الطيران بعد توقف دام أكثر من 3 أشهر بسبب تفشي جائحة كورونا، موجات كبيرة من هجرة اللبنانيين إلى خارج بلادهم.
يعود السبب في ذلك إلى أن لبنان يشهد أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه، تتزامن مع شحّ الدولار، وفقدان العملة المحلية أكثر من نصف قيمتها، وارتفاع معدل التضخم، وفقاً لوكالة الأناضول.
وتحت وطأة تلك الأزمة اندلعت احتجاجات شعبية واسعة، في أكتوبر الماضي، للمطالبة بإجراء إصلاحات اقتصادية وسياسية، لكنّ أياً من الظروف المعيشية للسكان لم تشهد تحسناً، بل على العكس.
عشرات الآلاف سيغادرون
الباحث في الشركة الدوليّة للمعلومات (غير حكومية)، محمد شمس الدين، أكد وجود رغبة كبيرة بين قطاعات واسعة من الشباب اللبناني في الهجرة خارج بلادهم.
شمس الدين أوضح أن الأرقام الدقيقة حيال ظاهرة الهجرة من لبنان غير متوفرة، لاسيما في ظل إغلاق السفارات الأجنبية في لبنان طوال الأشهر الماضية بسبب تفشي فيروس كورونا.
وقال إن نسبة الفقر في البلاد تقترب من 55% أي قرابة 2.3 مليون فرد، مع توسع دائرة الأزمة إلى مالية ونقدية وتشغيلية.
وأضاف، إن نسبة الفقرة مقسمة بين 25% من الإجمالي، أي مليون مواطن، يعيشون دون خط الفقر، ما يعني أن دخلهم لا يكفي لتوفير الكميات الكافية والضرورية من الطعام.
«بينما هناك 30% (1.3 مليون فرد)، يعيشون فوق خط الفقر أي دخلهم يكفي للغذاء، ولكن لا يمكنهم توفير المسكن واللبس المناسب».
وفقد الحد الأدنى للأجور 83% من قيمته منذ اشتداد الأزمة المالية؛ وفي هذا الصدد، قال الخبير الاقتصادي باتريك مارديني، إن الحد الأدنى تراجع عملياً من 450 دولاراً إلى 75 دولاراً، بسبب فروقات سعر الصرف.
وقال: «جاء ذلك نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية إذ بات الدولار الواحد يوازي 9000 ليرة لبنانية، بعد أن كان يوازي 1500 ليرة، فالعملة فقدت 78% من قيمتها».
وقال مارديني: «مصرف لبنان يدعم استيراد الوقود، ما يعني أن حرق الوقود لتوليد الطاقة، يعني أن مصرف لبنان المركزي يستنزف النقد الأجنبي للشراء».
«قد يصل مصرف لبنان إلى مرحلة يعجز فيها عن توفير النقد الأجنبي اللازم لاستيراد وقود الطاقة».
بمؤشر أكثر وضوحاً، أكد رئيس حركة الأرض (غير حكومية) طلال دويهي، أنّ عدد اللبنانيّين الحاملين لجوازات سفر أجنبيّة، لكنّهم يقيمون حالياً في البلاد، يتراوح بين 40 و45 ألف نسمة.
أوضح دويهي أن هؤلاء اللبنانيين يسعون للسفر إلى الخارج بمجرد عودة حركة الطيران، غير أنهم يواجهون حالياً مشكلة في سحب ودائعهم من المصارف اللبنانيّة، بسبب تداعيات الأزمة الاقتصادية.
أضاف دويهي في تصريح لوكالة الأناضول: «أعددنا إحصاء غير رسمي بشأن الراغبين في الهجرة، إذ كشف رغبة نحو 84 ألف لبناني في الهجرة، وسيكون هذا العدد مرشحاً للزيادة حال اصطحاب ذويهم».
أما فيما يتعلق بطلبات الهجرة في الوقت الراهن، فقال دويهي إن «هناك 23 ألف لبناني يطلبون الهجرة إلى كلّ من أستراليا وكندا، لكنّ من حصلوا على موافقة هم 3 آلاف فحسب (…)، الرغبة في الهجرة خارج لبنان تتزايد، لكنّ آليّة توافرها ليست ميسّرة في الوقت الراهن، لأن هناك مَن أمواله لا تزال محجوزة في المصارف الوطنية».
ووفق ترجيح الدويهي فإن «إعادة فتح السفارات الأجنبية وحركة الطيران ستؤدي إلى مغادرة 200 إلى 300 ألف لبناني من البلاد خلال أشهر قليلة».
ووسط هذه الأزمات، يسعى المواطنون إلى التأقلم مع تطورات أسعار السلع وأسواق الصرف، حتى في عمليات الاستهلاك الغذائية، ومنها اللحوم.
وكشف جوزيف الهبر نقيب تجار اللحوم، أن «القطاع قادر على الصمود لمدة تتراوح بين 20 و25 يوماً ليس أكثر».
وأضاف الهبر: «إذا بقي ارتفاع سعر صرف الدولار بهذا الشكل، فالقطاع سيتوقف بشكل نهائي، إن كان لناحية استيراد اللحوم المبردة والمجمدة، إضافة إلى اللحوم الحية.. نستورد سنويا 25 ألف طن.. هذا العام نستورد كمية لا تذكر».
وشدد على أن كيلو اللحم بات يبلغ 40 دولاراً بعد أن كان يبلغ 11 دولاراً، نتيجة تغيرات أسعار الصرف، مؤكداً أن «هذا الرقم مرشح للارتفاع مع ارتفاع سعر صرف الدولار».
وحول تضرّر الملاحم (محلات الجزارة) جراء الأزمة، أجاب: «35% من محال الجزارين أقفلت بشكلٍ نهائي، وهناك 20% من من السوبرماركت ستقفل فروع بيع اللحوم لديها».
وسارعت الاحتجاجات الشعبيّة التي انطلقت في 17 أكتوبر/‏‏تشرين الأوّل وتيرة الانحدار للاقتصاد وسط قطع طرقات وشوارع رئيسيّة في البلاد، وما ضاعف من حدّة الأزمة الإغلاق التامّ الذي دام أسابيع متواصلة عدّة لاحتواء جائحة كورونا.
غياب السلع
في سياق غير منفصل، تحدث عبدو مكرزل صاحب محل بقالة (فرن الشباك شرق بيروت)، عن انعكاس الأوضاع الاقتصادية على قدرته في تأمين البضاعة.
وأشار، إلى أن «البضاعة ارتفعت قيمتها بنسبة 200%.. هناك 10% من البضاعة ليس باستطاعته تأمينها من أي تاجر في سوق الجملة لأنها لم تعد متوفرة».
ولم يُنكر مكرزل أنه بات يقتصد في البضاعة، قائلاً: «قمت بالاستغناء عن السكاكر التي ارتفعت قيمتها وعن الأمور الثانوية، إذ أصبحت أؤمن لزبائني حاجاتهم الأساسية كالحليب والحبوب والمعلبات».
دعوات للجوء للمقايضة..
فناجين قهوة مقابل الخبز
ووسط الظروف الاستثنائية، أطلقت اللبنانية هلا دحروج، مبادرة إنسانية هدفها المقايضة في السلع عبر صفحة «فيسبوك» تحت اسم «ليبان تروك».
وقالت: «أسست المجموعة لتكون متاحة لكل فرد بحاجة إلى نشر خدمات أو أغراض يملكها، ويرغب في استبدالها بخدمات أو حاجات ضرورية».
ولكن في بلد كان تكثر فيه أدوات الرفاهية، بينما يقل فيه إنتاج الضروريات، فإن المقايضة قد تكون ظالمة.
إذ تقول هلا دحروج: «هناك من يعرض فناجين قهوة يمتلكها عبر الصفحة ويحصل في المقابل على كيس حليب أو ربطة خبز»، لافتة إلى أن «هذه المبادرة كشفت عن عائلات من الطبقة المتوسطة تبدلت حالتها الاجتماعية للأسوأ».
وإلى جانب الأزمة الاقتصاديّة الخانقة، يعاني لبنان من انقسام واستقطاب سياسي حاد، خاصّة منذ تشكيل الحكومة الحاليّة، برئاسة حسان دياب، في 11 فبراير الماضي، خلفاً لحكومة سعد الحريري، التي استقالت في 29 أكتوبر الماضي، تحت ضغط الاحتجاجات الشعبيّة.
تعليق مفاوضات مع
صندوق النقد يطيح بالأمل
والأسوأ إعلان وزير المالية اللبناني غازي وزني، عن تعليق محادثات بدأت في مايو الماضي مع صندوق النقد الدولي؛ للحصول على مساعدة من الصندوق لتمويل خطة لإنقاذ الاقتصاد.
وقال الوزير في تصريحات لصحيفة «الجمهورية» المحلية، نشرت الجمعة الماضية، إن المفاوضات مع الصندوق علقت في انتظار بدء لبنان «تنفيذ الإصلاحات بأسرع وقت ممكن، والتوافق على مقاربة الأرقام بشكل موحد».
وأضاف «ما يُعمل عليه اليوم هو تحديد الخسائر وحجمها بكل القطاعات».
وتابع: «علينا الخروج بمقاربة موحدة متفق عليها مع كافة القوى السياسية وبالتنسيق بين الحكومة ومجلس النواب، لأن الوقت لم يعد يسمح بالمماطلة ويجب أن نتفق بأسرع ما يمكن».
وعلى مدى الأسبوع الماضي، طفت إلى السطح خلافات لبنانية داخلية بشأن المحادثات مع صندوق النقد، دفعت اثنين من أبرز أعضاء فريق المفاوضات مع الصندوق للاستقالة.
والإثنين قبل الماضي، استقال مدير عام وزارة المال آلان بيفاني من منصبه، وبرر استقالته في حينه بقوله إن المصالح الخاصة تقوض خطة الحكومة لإنقاذ اقتصاد البلاد من الانهيار.
وقبل استقالة بيفاني بنحو أسبوع، استقال هدري شاؤول مستشار وزير المالية والعضو في فريق المفاوضات مع صندوق النقد من منصبه لأسباب مماثلة. وفي الآونة الأخيرة، ظهرت إلى العلن خلافات واتهامات متبادلة بين الحكومة ومصرف لبنان (المركزي)، الذي حمله رئيس مجلس الوزراء حسان دياب مسؤولية انهيار أسعار صرف الليرة.
معيشة صعبة في لبنان
أمام الوضع الاقتصادي المزري لا يرى شبان لبنانيون بارقة أمل لتحسن الأوضاع في بلدانهم، حيث يقول وسام نمر (40 عاماً) إن «أيّ مواطن لبناني أمّنوا له تذكرة الطيران سيغادر فوراً، ولو اضطر للعمل كشحاذ».
في حين قال محمد كلش (27 عاماً): «نحن نفكر في الهجرة، خصوصاً الذين تخرجوا في الجامعات. الوضع المعيشي خارج البلاد سيكون أفضل للشباب».
أما سليمان علوش (50 عاماً) فقد فسر السبب قائلاً: «عندما تفتح السفارات الأجنبية أبوابها فإن الجميع سيفكرون في الهجرة، خصوصاً عندما يصبح الراتب الشهري يوازي 100 دولار»، بيما قال رينيه سويدان (67 عاماً) إنّ «90% من مهاجري لبنان لا يفكرون في العودة إلى بلادهم نهائياً، بسبب الأوضاع التي تشهدها البلاد».
وبدوره قال فراس حلبي (29 عاماً): «أهلي وأصدقائي ينتظرون إعادة فتح المطار للمغادرة من دون رجعة. الوضع لا يحتمل»، في حين قالت زينة الحلو (40 عاماً): «أيّ دولة في العالم ستعامل اللبنانيين بإنسانية أكثر من هنا (في إشارة إلى لبنان). هذا ما يشعرني بالأسف».
قرارات صعبة
ومراراً حذّر باحثون لبنانيون من تداعيات عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي في البلاد، على موجات هجرة الشباب، والتي قد تهدد بدورها المستقبل الاقتصادي والاجتماعي في البلد الذي يضم داخله نحو 4 ملايين، ويعيش خارجه قرابة 16 مليوناً.
وأجبر التدهور السريع للاقتصاد في لبنان أناساً على اتخاذ قرارات لم يكونوا يتوقعونها، لضمان بقائهم على قيد الحياة، ووصل الحال ببعض اللبنانيين إلى بدء مقايضة ممتلكاتهم الشخصية، مقابل الحصول على حفنة من الغذاء.
في الكواليس، يسعى جزء من الأطراف السياسية اللبنانية لإعادة سعد الحريري لرئاسة الحكومة كرئيس لحكومة إنقاذ سياسية تعيد إبراز الطبقة السياسية التقليدية بعد فشلها في إدارة البلد.
يخوض هذه التجربة رئيس المجلس النيابي نبيه بري ومعه نائبه إيلي الفرزلي المقرب من حزب الله والذي أعلن منذ يومين أن الحل لاستعادة الثقة الدولية بلبنان هو عودة الحريري للمشهد السياسي، وأن الحريري يتمتع بعلاقات قوية مع دول المنطقة والمجتمع الدولي.
كما أن الفرزلي يمارس ترويجاً لفكرة التغيير الحكومي، وهذه المرة من بيت الحريري تحديداً فيعلن بصريح العبارة: الحريري مدخل رئيسي للمّ الشمل اللبناني، في حين ينصح دياب للعمل على الإفساح لقدوم حكومة بديلة. في حين يلمح سعد الحريري للمرة الأولى منذ تقديم استقالته، إلى شروط وضعها في عهدة المبادرين كي يقبل بالعودة إلى الحكومة، اذاً هو، بحسب الداعمين للحكومة «على عكس ما كان سائداً طوال الفترة الماضية، مستعد لإزاحة دياب والجلوس مكانه». ما لم يقله الحريري عن شروط عودته، فهي وفق مصادر مقربة منه، تشكيل حكومة من «12» وزيراً وخالية من حزب الله والتيار الوطني الحر وتضع نصب عينيها أهدافاً واضحة أبرزها إصلاحات سريعة للقطاع المالي واستعادة ثقة المجتمع.
ويستدرك الحريري بين مقربيه ليقول أنه لن يعود للسراي الحكومي في عهد ميشال عون طالما أن صهره يحكم البلد.
وجاءت الدعوة واضحة لإسقاط حكومة دياب في كلام عضو تكتل لبنان القوي «التيار الوطني الحر» النائب آلان عون الذي في تصريح لصحيفة النهار اللبنانية، أن سرعة الانهيار أسرع من وتيرة عمل الحكومة، وأنه إذا لم تستطع الحكومة كبح الانهيار المالي وفرملته، فمن الطبيعي أنها ستنهار.
ويرى مراقبون أن هذا الكلام يشي بشيء واحد أن التيار الوطني الحر والذي خاض معركة لإثبات حضوره في الحكومة بات أكبر المتضررين منها، ويريد استبدالها لأنها باتت عبئاً عليه وعلى عهد ميشال عون.
فيما تقول مصادر أخرى متابعة لـ عربي بوست مساء الثلاثاء قبل الماضي وبعد جلسة مجلس الوزراء التي تخللتها اعتراضات كثيرة، من وزراء محسوبين على التيار الوطني الحرّ، معترضين على الأداء الحكومي توجه عدد منهم إلى منزل رئيس التيار الوطني جبران باسيل، وضم نائبة رئيس الحكومة زينة عكر، وزيرة العدل ماري كلود نجم، وزير الطاقة ريمون غجر، وزير الشؤون الاجتماعية رمزي مشرفية، وزير الداخلية محمد فهمي، وزيرة الشباب والرياضة فارتيني أوهانيان.
وقالت المصادر إن الهدف من اللقاء هو الضغط على الحكومة، والاستمرار في عملية التبرؤ منها، لأنها باتت في موقع التحدي مع واشنطن بعد سلسلة قرارات أبرزها التعيينات المالية التي تم استثناء محمد بعاصيري منها على عكس الطلب الأميركي بإبقائه نائباً لحاكم المصرف المركزي.
copy short url   نسخ
08/07/2020
592